ارشاد رسولي جديد اطلقه البابا بينيديكتوس السادس عشر من لبنان حول الكنيسة في الشرق الاوسط في ايلول 2012. هكذا وضع قداسة البابا الاصبع على الجرح النازف من خلال مضامين الارشاد الرسولي ومحاوره الاساسية التي نتناول منها موضوع العلمانية الايجابية.
جاء في الارشاد في الفقرة 29: "يختبر الشرق الاوسط، كباقي انحاء العالم، واقِعَين متضارِبَين: العلمانية، بأشكالها المتطرفة احيانا، والاصولية العنيفة المدّعية أصلا دينيا". فاذا كانت العلمانية لا تعني الالحاد أو اللاأخلاقية، يضيف الارشاد، فان العلمانية الايجابية تعني "تحرير المعتقد من عبء السياسة، وﺇغناء السياسة بمساهمات المعتقد، مع حفظ المسافة اللازمة بينهما والتمييز الواضح، والتعاون الذي لا غنى عنه".
اما التطرف الديني فهو، بحسب الارشاد، "وباء يفتِك بكل الجماعات الدينية ويرفض التعايش القديم الاجيال". لذلك يدعو البابا الى "استئصال هذا الداء الذي يهدد، دون تمييز وبشكل قتّال، مؤمني كل الديانات"، ويضيف "ﺇن استخدام كلمات الوحي والكتب المقدسة، او اسم الله، لتبرير مصالحنا وسياساتنا التي بسهولة مذهلة تتكيف مع الظروف، او لتبرير لجوئنا الى العنف، هو جريمة بالغة الجسامة".
يتوجه البابا في الارشاد الرسولي الى عالم يختزن الاديان السموية بعمق تاريخها وأصالة وجودها وعراقة تجربتها في العيش المشترك وفي العيش المأزوم. في هذا الشرق وفي مناطق اخرى من العالم شكّل الاختلاف الديني أو العرقي والصراع على السلطة مصدرا لنزاعات وعنف وحروب مدمرة. الا ان الشرق الاوسط، كما نعرفه، لايزال فيه "التاريخ" في بداياته، وان لم ينته ايضا في الغرب، خلافا لمقولة فوكوياما الشهيرة التي اطلقها بعد انتهاء الحرب الباردة.
الشرق الاوسط هو من المناطق القليلة في العالم التي لم تنته فيها النزاعات، القديم منها والجديد، لا بل فانه لايزال حاضنة لنزاعات تتوالد وتتجدد في زمن الدولة الحديثة، بعد ان ولى زمن الامبراطوريات. فهي ليست فقط نزاعات تقليدية حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو حول حدود السلطة واسلوب ممارستها في انظمة ديموقراطية، مثلما هي الحال في عدد كبير من الدول، الغنية والفقيرة، في الشرق والغرب على حد سواء. ولعل ابرز ما يميز العالم العربي في المسار السياسي العام منذ نحو قرن هو فرادة النزاعات التي عصفت به، وهي التي تتداخل فيها السياسة والدين والقوميات، ومنها ايضا الثورات، بدءا بالثورة الايرانية الاسلامية في اواخر سبعينات القرن المنصرم وصولا الى الربيع العربي في المرحلة الراهنة. سأشير فقط الى حالتي نزاع تتميزبهما المنطقة، ماضيا وحاضرا.
ثمة نزاع يختزن النزاعات كلها، فلا شبيه له في اي مكان في العالم: النزاع العربي- الاسرائيلي، وهو الاطول بين النزاعات الاقليمية المعاصرة والاكثر تعقيدا، وقد فشلت كل المساعي لانهائه ولايجاد حل عادل يرضي المتنازعين. انه نزاع حول الجغرافيا والتاريخ، وحول الدين والدنيا، وحول القومية والهوية، وعمليا حول الدولة وحدودها وأمنها، وحول الديموغرافيا والمياه وكل شبر من ارض فلسطين. انه نزاع حول كل شيء، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
نزاع آخر لا شبيه له بين النزاعات المعاصرة: الشرخ المذهبي المتفاقم في دار الاسلام. ففي حين ان الانقسام ملازم للاسلام منذ بداياته، الا انه آخذ بالتوسع وفي الاتجاهات كافة، وتحديدا في زمن الدولة الحديثة والمجتمع المرتبط بها. انها حالة غير مسبوقة وغير مختبرة في مراحل سابقة عندما كان الاسلام دين الدولة الامبراطورية، خلافا لحقبة الدولة القومية او الوطنية.
هذا الشرخ، الذي ساهمت حرب العراق الاخيرة في تعميقه بعد الانهيار الكامل للدولة ومؤسساتها، وضع الشرق الاوسط على خط الصدع المذهبي، لا في العالم العربي فحسب بل في العالم الاسلامي كله، وفي الجوار غير العربي، وتحديدا في ايران الشيعية وتركيا السنية. هذه التعبئة المذهبية والقومية المزدوجة في اطار توازن القوى القائم بين المحورين، يشكل ايضا حالة نزاع غير مسبوقة في شكلها ومضمونها وغاياتها في زمن العولمة وثورة الاتصالات المفتوحة وسلاح الدمار الشامل.
[Link]