Notice: Undefined index: file in /home/khazen/public_html/wp-includes/media.php on line 1763
ثورة أهالي كسروان على المشايخ الخوازنة وأسبابها.
بدأت الثورة سنة 1858 في أواخرها، أما أسبابها فمنها أولية ومنها ثانوية، ونظرا" الى الأسباب الأولية يعتقد البعض أنّ الذين قاموا بثورة كسروان سنة 1858 ضد الخازنيين إنما هم أهالي كسروان جميعهم، وهذا إعتقاد مغلوط لا يمت الى الحقيقة بشيء. فإنّ أهالي كسروان عموماً بالرغم من كلّ شواذات كانوا يطالبون بإزالتها لم يفكّروا يوماً بعمل ثورة و لا تغيير حكم الخازنيين، ولكن قصد الثورة تكون عند عمال تركيا دون سواهم، وغايتهم أن تتاح لهم ذريعة لبسط سلطتهم على لبنان من جديد بعدما قصرتها عنه دول أوروبا لصالح المسيحيين المضطهدين أيما إضطهاد. فإنّ الأمير بشير أحمد قائمقام المسيحيين كان مكروهاً من عموم الأهالي، فتألّفت ضدّه جمعيات في قرى كسروان كان الخازنيون ذاتهم يشجعونها عليه لأنهم كانوا على خصام شديد معه، وهنا وجد الأتراك منفذاً لإتمام رغائبهم فتداخلوا مع الجمعيات وأضافوا الى غايتها المطالبة بإلغاء الشواذات التي كان الشعب يتذمّر منها، وأخصّها توحيد السلطة في شخص واحد من الخازنيين وأن لا يكون كل فرد منهم حاكماً، فاجتمع الأمير مجيد بأحلافه، وأقرّ رأيهم على تهييج وتحزيب أهالي كسروان واستوثقوا أولاً برجل ملكي يسمّى الياس المنيّر من ذوق مكايل، وكلّف ببث هذا المبدأ فاندفع وراح يساورالأهالي ويقول:"نحن في كسروان مستعبدون لكامل عائلة كثيرة العدد ومختلفة الأطباع، ولكلّ من أفرادها السلطة والسيادة التي لآل الخازن علينا، فعلينا أن نطلب الإقالة من هذه، وتجاهر برفض تسلّط عموم المشايخ علينا، وأن يكون لواحد منهم فقط تولّي الأحكام، (المقاطعة الكسروانية ص 268 )، تلك هي الحيلة التي اختبأ وراءها موقدو الثورة من الأتراك ورجالهم أي توحيد الحكم في واحد من بني الخازن، ولولا هذه الحيلة لما مشى في الثورة غير أفراد قليلين إنغروا بامتلاك ثروة بيت الخازن "فأهالي كسروان الشمالي لما تأكّدوا مقاصد القائمين بالثورة لزموا الحياد ولم يشاركوا أصحاب العدوان على إلحاق الضرر بالمشايخ، لا بل أخذوا جانب الدفاع عنهم بقدر ما سنحت لهم الفرصة" (المقاطعة الكسروانية ص 277 ) وجميع الذين ساروا بالثورة كانوا إمّا مخدوعين بهدفها أم طامعين بالثروة من ورائها، حتى أنّ الياس المنيّر ذاته أكبر نافخ في بوقها، لم يكن إندفاعه لإضرام نارها إلاّ أمله بالحصول على جائزة عظيمة من جانب الأمير بشير أحمد (المقاطعة الكسروانية ص 272 )، فتألّفت الجمعيات وكان في عداد إقرارها في البداية كثيرون من المعتدلين وأصحاب الرأي القويم، وجرى إنتخاب رؤساء الجمعيات وكان أكثرهم من ذوي الأخلاق الشريفة والمنطق القويم واجتمعوا وأقاموا عليهم رئيساً أعلى وهو صالح جريس صفير من عجلتون، رجل متفقه عادل ومعروف بأنه من أصحاب الآراء المستقيمة. ولكن مقصد الحكومة التركية الذي هو ايقاد الثورة لم يتأخّر أن انكشف وتبين ما تنطوي عليه نياتها من تأليف الجمعيات ممّا لا يروق لعموم الكسروانيين و لا للمعتدلين من أعضاء الجمعيات ورؤسائها فإستقال هؤلاء ولزموا بيوتهم مثل حبيب الجاماتي وسمعان أبي حيدر من ذوق مكايل وكذلك إستقال الرئيس الأعلى صالح جريس وبقي أصحاب الشغب فانفسح لهم المجال وتغلب رأيهم وانتخبوا لهم رئيساً أعلى رجلاً بيطارا"ً من ريفون يدعى طانيوس شاهين فجاء وطبّق مرامهم وتعهد لهم أنّه يريحهم من جميع بني الخازن وعند ذلك يتملكون جميع أراضي كسروان ويصبحون بين ليلة وضحاها من الأثرياء ويعيشون بالسعة والرغد بدلا" من عيشة المعول. وماذا يقتضي لتهويش أصحاب الأطماع. أما الأسباب الثانوية فهي: أولاً
– إنتشار أخبار الثورة الفرنساوية في بلادنا وإنتفاضة الشعب الفرنساوي ضدّ الإقطاعية وخلع نيرها عنهم، ومن معلوم أنّ بلادنا كانت دائماً تتأثّر أكثر ما يكون بأعمال الفرنساويين، فلم يصير عندنا ما صار في فرنسا؟
3 – تضارب السياسة الفرنساوية مع الإنكليزية في الشرق، فكان الأمير بشير أحمد الّلمعي على خلاف مع الخازنيين، وكان الإنكليز يشدّون أزر الخازنيين في محاربته، وكان الفرنساويون والأتراك يعضدونه وقد نجح الخازنيون أولاً في إقصائه عن الحكم فراح يكيد لهم بتهييج الأهالي عليهم. على أن العامل الأكبر لإندلاع الثورة كان يكمن في تدخّل رجال تركية، فهم الذين لعبوا الدور الأولي في إشعالها.
ذكر المؤرّخ يوسف يزبك نقلاً عن المحررات السياسية قال: "ومن الواجب أن تذكّر القارىء أنّ سوء سلوك بعض الخازنيين وإستبدادهم لم يكن وحده سبب الثورة، فإنّ تطاحن المصالح الإستعمارية قد إشترك في إذكاء نارها، وكانت حكومة الأستانة تدير المؤامرات وتثير الدسائس حتى يشتبك اللبنانيّون في حرب أهلية، وبهذه الوسيلة تبسط أجنحة حكمها مباشرة على لبنان وهي غاية جعلتها مرمى أنظارها منذ أن منح لبنان نظامه الحالي، (المحرّرات السياسية مج 1 ص 343 ). وكان من المعقول أن ترتاح الى سوء تصرّف بعض الخازنيين وتأفف الشعب منهم وغضبه عليهم، والى ثورة الشعب على حكامهم فيرتمي الفريقان في أحضانها كما جرى في زحله.
أمّا فرنسا فبعد إنهيار سياستها أخذت تشجّع جهّال الكسروانيين على أخذ الثأر وممن؟ من إخوانهم، وبدت فضيحة التنافس الإستعماري في تفريق اللبنانيين إذ تناقض موقف لندن وباريس في سياستها التقليدية، فطفق القنصل الإنكليزي يعطف على آل الخازن ضدّ الثوار، وآل خازن هم عملاء الإستعمار الفرنسي من قديم الزمان كما هو معروف، وراح القنصل الفرنسي يعطف على الثائرين قصاصا" لعماله السابقين المتأنكلزين. وكان عمّال لندن قد حرّضوا الخازنيين على القائمقام المسيحي من قبل، فلمّا أقيل هذا من منصبه قام عمّال تركيا وفرنسا يحرّضون أنصار القائمقام على الخازنيين، فإنتهز أحرار الشعب السانحة لرفع النير الإقطاعي عنهم فثاروا على آل خازن. والعاقل يرى في تناقض السياسة اللاعبة على الحبلين عبرة رهيبة.
تدخّل رجال الحكومة التركية: إنّ حكومة الأستانة ما كانت لتغفل يوماً عن إتخاذ الخطط لإخضاع أهالي الجبل الجانحين الى التحرّر والى إلغاء الإمتيازات التي أعطيت لهم بقوة "خط كلخانه" 1839 ،و"الخط الهمايوني" 1856 وقد تبلّغ الى ممثلي الدول في مؤتمر باريس في السنة ذاتها.تلك الإمتيازات التي أجبر السلطان على منحها تحت ضغط الدول العربية وبإشرافها، والى ضبطهم تحت سلطتها المباشرة لأنها كانت ترى أنّ تلك الإمتيازات لم تكن تتفق مع سلطتها المطلقة على باقي أنحاء السلطنة، فكان باشا بيروت يترقب الفرص للتدخل في قضايا الجبل، ولمعرفته أنّ الفوضى هي إحدى الوسائل لخدمة مقاصده، راح مع معاونيه من عمال الأتراك يهبجون الأحزاب المتناحرة ويقيمون الواحد منها ضد الآخر لكي يضعفوا الفريقين ويتولوا أمر كليهما معاً. فمن بعد وفاة الأمير حيدر شهاب الذي بحكمته عرف أن يجنّب البلاد كلّ ثورة وكلّ حرب أهلية، فخيّم السلام في حكمه مدّة إثني عشرة سنة، وبعد وفاته إنتقلت السلطة في القائمقامية المسيحية الى أيدٍ غير كفوء لها، وساءت الأحوال وفقد الحكم مهابته واندلعت الثورة 1858 . وكان أن طبقة المسيحيين الأشراف إنقسمت الى أحزاب متعاكسة، وهذا الإنقسام شجّع الطبقة المحكومة الى الهجوم عليهم. فبعد الأمير حيدر كان المتسابقون الى خلافته كثيرين، غيرأنّ مقاصد الباب العالي قضت بتعيين الشخص العديم لكل أهلية من بينهم فقلّدته الحكم، ذاك هو الأمير بشير أحمد الّلمعي، رجل دساس عديم الوجدان، منتقم، متهتك، مفسود الأخلاق، قد غيّر دينه عدّة مرّات، فعمل مسلماً ثمّ درزياً ثمّ عاد الى النصرانية عند زواجه بابنة شقيق الأمير حيدر ، إلا أنه لم يتخذ من النصرانية غير اسمها، وكان الرأي العام يعتده رجلاً ساقطاً،ولم يكن لأحد ثقة به. وكان وارمك باشا والي صيدا قد رفض مساعدته لإستلام الحكم، وبالرغم من ذلك عيّنه الباب العالي قائمقام القطاع المسيحي متوخياً أنّ إجراءاته الشاذة لا تتأخر أن تثير الخضّات في الجبل، وهذا ما كانت الدولة راغبة فيه، فلم يكن من مصلحتها أن تتلافى الفتن بل بالعكس أن تتركها تتجسّم بحيث أن الدول المحافظة على لبنان ترى ذاتها أخيراً مضطرة أن تطلب تدخل العسكر العثماني لأجل حماية شعوبها. إن تعيين الأمير بشير أحمد لم يشل عزم أخصامه، فإن عدداً كبيراً من المشايخ رفضوا الخضوع له، والعائلة الخازنية القوية كانت مستقلة فعلاً في كسروان، كما ان كثيرين من أقاربه اللمعيين هاجموا ضده، فاضطر لذلك أن ياجأ إلى بيروت ومنها إلى الأستانة، وقام أخصامه بتقيدم عريضة ضده، غير أن الباب العالي، رغم التظاهر بمظهر التحقيق، برأه وأصدر أمراً باعادته إلى حكم الجبل، إلا أن هذه التبرئة لم يكن لها تأثير كبير لأن الأمير المذمور كان قد أضاع كل ثقة في شخصيته وذهبت مهابته في الحكم، فلم يبق للسلطة وجود في القطاع المسيحي، وبقي الأمير على عادته يعمل لبث الدسائس في الأحزاب والفئات حتى أصبحت كلها ضده.
وبدأت بوادر الثورة نذر قرنها، وكل يوم تزيد عن يوم وصارت تبعث على القلق، وبدأ الدم يجري، فطلبت انكلترة تغيير الأمير بشير أحمد، غير أن فرنسا عارضت بذلك فأبقي في مركزه، وكان الباب العالي يشد أزره، وكان مرتاحاً جداً إلى الخصام بين حليفي سنة 1845 (فرنسا وانكلترا)، وكان ينظر بعين الرضى إلى بوادر الحرب الأهلية في لبنان. اما الأمير بشير أحمد فكان الحقد يتأجج في صدره ضد الخازنيين بسبب معاكستهم له، وكان متعطشاً إلى الإنتقام، فاندفع بكل عزم لتقويض سلطة مناوئية عن طريق تحريض الأهالي عليهم، وسادت الفوضى عندما تولى الأمر والنهي زعماء الغوغائية فداسوا الشرائع الإنسانية والأدبية والدينية، وكانوا يجرون الأوامر على ما يطيب لهم محتقرين كل سلطة. بلغت الشكاوى إلى القناصل والسلطات التركية في بيروت، ورفع التجار الأوروبيين والوطنيون بالتضامن عرائض إلى القناصل والباشا طالبين وضع حد للفوضى، وطلب قنصل الإنكليز إجراء تحقيق جدي في الجبل، إلا أن مفوضاً من قبله ليطلع على الشكاوى (كذا) ولكي يكسب التأييد من الأبواق المختلفة، فتظاهر أنه يجري العدالة.
وكان عطا بك والأمير اتفقا سراً فجاء التحقيق سخافة وجاءت النتيجة حسبما هو متوقع، تبرئة الأمير ضد أخصامه وصدر الأمر ببقائه في وظيفته.
عند ذلك أعلن القنصل الإنكليزي أن الدولة التركية كانت تفتش عن ذريعة لإلغاء نظامات لبنان، واتهمها بخرق قرارات 1845 باعطائها قائمية الدروز إلى مسلم بدلا" من درزي، وقائمقامية الموارنة إلى بشير أحمد الذي لم يكن مسيحياً إلاّ بالإسم فقط. أما خورشيد باشا فقد جاهر بما في قرارة نفسه فقال: "ليس إلا نكبة هائلة يمكنها ان تقنع الدول بأن الإستقلال الداخلي لا ينفع شيئاً لهذا الشعب الهمجي النازع دوماً إلى الخصام"، وأنه ليس غير قوة باشا تركي مصحوبة بعدة طوابير عثمانية يمكنها أن تضبطه ضمن حدود التعقل.
النتائج المؤسفة التي اورثتها ثورة كسروان، ان حوادث كسروان سنة 1858 لا يصح ان يطلق عليها اسم ثورة، فالثورة هي قيام شعب دولة لقلب نظام الحكم السياسي والاجتماعي المستبد والمطلق التصرف وابداله بنظام مقيد مرجعه الشعب، وكذا قيام الشعب لخلع نير الاستعمار الاجنبي.
اما هنا فليس شعب يقوم ضد دولته بل كل ما هناك هو تعصب بعض افراد في منطقة صغيرة تسمى كسروان من جبل لبنان التابع للدولة العثمانية وذلك ضد عائلة من المنطقة المذكورة. وهذا التعصب والهياج لم يكن موجهاً فقط ضد الدولة بل بعكس ذلك ان الدولة العثمانية بذاتها كانت المحركة اليه، وهي كانت تحمي الهائجين وتغرهم بالاستيلاء على ممتلكات الخازنيين بحيث يحصلون على ثروة طائلة.