ايها الاحباء، شهدت كسروان بين العامين 1858-1860 انتفاضة شعبية ضد الحاكم بسبب تسلط بعض افراد من آل الخازن ولاسباب مرتبطة بالصراع على السلطة، وتردي الاوضاع الاقتصادية في كسروان، التي وصفها Henri Guys في 1847 بانها كانت “الاكثر ثراء والاكثر كثافة من الناحية السكانية” في الجبل (Kesrouan est le plus riche et le plus peuplé). انها حركة اعتراض غير مسبوقة في حجمها وتداعياتها للحدّ من نفوذ الحاكم وامتيازاته، وهي بالتالي اقرب الى Jacquerie (soulèvement de paysans)، بحسب Chevallier، Porath ،Kerr ،Makdisi وسواهم، منها الى الثورة (revolution)، التي غالبا ما تطيح بالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم لتستبدله بنظام آخر، قد يكون اكثر عدالة ومساواة او اكثر استبدادا واحتكارا للسلطة. الواقع ان طانيوس شاهين ورفاقه لم ينقضوا في مطالبهم شرعية آل الخازن بتولي الحكم ولم يشككوا بشرعية ملكيتهم للارض، كما اشار المؤرخ Porath. وطانيوس شاهين، الذي لم يكن يجيد القراءة او الكتابة، لم يتأثر بالثورة الفرنسية وبكتابات Rousseau و Voltaire، كما زعم البعض، ولم يكن هدف الحركة اقامة جمهورية شعبية، بحسب ما أكد مؤرخو تلك المرحلة (Kerr، Porath، Makdisi، Chevallier)، لاسيما بعد ان تجاوزت التطورات صانعي الحدث انفسهم وطغت غايات الدول الكبرى على مسار الامور، وبات همّ البطريرك مسعد، وهو صاحب النفوذ الاكبر في تلك المرحلة في كسروان، احتواء الازمة بعد ان خرجت عن سيطرة الجميع وباتت تهدد مصالح الراعي والرعية في آن معا. والمفارقة في سيرة طانيوس شاهين ان لا ذكر له في الدراسات التي تناولت جبل لبنان بعد العام 1861، وهو الذي عاش نحو 35 سنة بعد الحركة الكسروانية. سؤال افتراضي لابد من طرحه في هذا المجال: ماذا لو لم يحصل الصدام الطائفي في 1860، كيف كانت ستؤول اليه الاوضاع في كسروان؟
ندوة حول كتاب
انطوان سلامه، طانيوس شاهين: من منازلة الاقطاع الى عجز الثورة
زوق مكايل 20/4/2013
النائب د.فريد الياس الخازن
انها حتما المرة الاولى التي تتم فيها مناقشة كتاب حول طانيوس شاهين بمشاركة خازنية. وهي ايضا المرة الاولى التي يتم فيها تناول هذا الموضوع في اطار ندوة فكرية في زوق مكايل، حيث تشكلت النواة الاولى لحركة الاعتراض الكسروانية.
عندما طلب مني الاستاذ انطوان سلامه المشاركة في ندوة حول كتابه الجديد، لم اتردد بالقبول، حتى قبل قراءة الكتاب. وفيما بعد، قدم لي نسخة عن الكتاب واتصل لاحقا للتأكيد على المشاركة. اظن انه تفاجأ بقبولي المشاركة، بلا تحفظ او تردد، في مناقشة كتاب محوره الثورة ضد مشايخ آل الخازن، ولقد نقل الي مفاجأة بعض من فاتحهم بالموضوع.
لم اتردد في المشاركة لاسباب ثلاثة. بداية، لان موضوع الكتاب يعنيني كباحث في السياسة اللبنانية، ولقد امضيت نحو ربع قرن من حياتي المهنية في الكتابة والتعليم الجامعي، ولا ازال الى اليوم امارس التعليم لكن على حساب البحث الاكاديمي الذي احتكرت وقته ومتنفسه مسؤولياتي كممثل عن هذه المنطقة العزيزة في مجلس النواب منذ العام 2005. وانا اعتز بالثقة التي منحني اياها ابناء المنطقة، ومنهم ابناء هذه البلدة الابية، الزاخرة برجالات كبار في الادب والشعر والسياسة والانماء.
سبب آخر دفعني للاهتمام بموضوع البحث، وهو مؤلف الكتاب، الصديق انطوان سلامه، الاعلامي المتميز والرصين، وهو من القلة الذين يقومون بعملهم بدقة واحتراف، بلا ضجيج ولا ادعاء، كما اني اقدر الجهد الذي يقوم به في البحث التاريخي.
عامل آخر شدّني للمشاركة في هذه الندوة، وهو مرتبط بالتساؤلات التي طالما راودتني حول الاحداث التي عصفت بجبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر والتي ترافقت مع تفكك بنية السلطة في كافة مفاصلها في زمن دخول “المسألة الشرقية” عقر دار الامبراطورية العثمانية، شرقا وغربا، وهي التي حكمت هذه البلاد طيلة اربعة قرون.
ولا اخفي ان اهتمامي مرتبط ايضا بمسألة اخرى لازمتني منذ الولادة، وهي انتمائي الى عائلة لعبت ادوارا اساسية في تاريخ جبل لبنان وكانت في قلب الحدث الذي يتناوله الكتاب. والمفارقة ان هذا الحدث المفصلي لم يترك اثرا مباشرا في الرواية المتداولة ضمن العائلة الخازنية، وتحديدا في ريفون، بلدة طانيوس شاهين ومسقط رأس جدتي لوالدتي التي روت لي نقلا عن جدها ان طانيوس شاهين (وهي رواية سمعتها من آخرين)، الذي توفي في العام 1894، كانت تربطه علاقة طيبة مع عائلة ابيها في ريفون.
لقد شارك آل الخازن في الحكم في كسروان ومناطق اخرى من الجبل طيلة ثلاثة قرون في اطار نظام المقاطعجية، المبني على جباية الضرائب (الميري)، وهو يختلف عن نظام الاقطاع (féodal) الذي ساد في اوروبا لجهة ملكية الارض والوظيفة الادارية والعسكرية للحاكم، كما يبيّن ايليا حريق في دراسة تفصيلية صدرت في العام 1965. ولقد تجاوز نفوذ آل الخازن اطار الحكم المحلي ليصل الى اقامة علاقات وطيدة مع الكرسي الرسولي بدأت في منتصف القرن السابع عشر في زمن البابا اربانوس الثامن (1623-1644) مع الشيخ ابو نادر الخازن وكذلك مع ملوك فرنسا في زمن الملك لويس الرابع عشر الذي شغل احد افرادها، الشيخ ابو نوفل الخازن وذريته من بعده، منصب قنصل فرنسا في بيروت منذ العام 1662 طيلة قرن كامل.
الا ان الجانب الاكثر تأثيرا في مسار السياسة المحلية تمثل بالعلاقة التاريخية بين آل الخازن والكنيسة المارونية ومع الرهبانيات الشرقية والغربية لاسيما اليسوعيين واللعازاريين. ولقد اعطت العائلة الخازنية ثلاثة بطاركة وسبعة مطارنة، وعددا كبيرا من الكهنة والرهبان والراهبات، وأسست اديارا واوقافا بدءا من القرن السابع عشر وبلا انقطاع حتى القرن العشرين. ولا يزال دير سيدة البشارة في زوق مكايل، الذي تأسس في العام 1829، الوقف العائلي الوحيد القائم الذي يضم جماعة ديرية.
نورد هذه النبذة بهدف وضع الامور في سياقها التاريخي ذلك ان احداث منتصف القرن التاسع عشر ارتبطت بشؤون الحكم وبالاوضاع السياسية والاقتصادية في زمن الامارة الشهابية وفي المرحلة التي تلتها بعد نشوء نظام القائمقاميتين. الواقع ان آل الخازن هم من العائلات المارونية القليلة التي مارست السلطة ما يزيد على قرنين قبل احداث اوآخر خمسينات القرن التاسع عشر. وخلال هذه المرحلة توطدت ركائز الاستقرار السياسي في الجبل وبلغ التوسع الديمغرافي الماروني والتمدّد الجغرافي باتجاه القسم الجنوبي لجبل لبنان أقصى مداه. ومنذ القرن السادس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، تعاظم نفوذ الكنيسة المارونية على المستويات كافة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، لاسيما بعد انشاء المدرسة المارونية في روما في العام 1584 وانعقاد المجمع اللبناني في العام 1736 الذي اطلق مسار الاصلاح الشامل في مؤسسات الكنيسة.
لقد تقاطعت مصالح اصحاب السلطة السياسية من العائلات المارونية الحاكمة، لاسيما آل الخازن، مع الدور المتنامي للبطريركية المارونية والرهبانيات، فأمّن آل الخازن الحماية السياسية والمادية عبر شراء الاراضي من غير المسيحيين في كسروان وبناء الكنائس (37 كنيسة) وتأسيس الأديار والأوقاف. فعلى سبيل المثال، حمى آل الخازن البطريرك الدويهي من جور ولاة طرابلس، فانتقل البطريرك الى كسروان، وبدءا من ثلاثينات القرن التاسع عشر ﺇعتُمد دير بكركي مقرا شتويا دائما للبطاركة. فلا عجب ان تكون الكنائس الشرقية الارثوذكسية (الروم الملكيين، السريان والارمن)، التي استقلت عن كنائسها الام وانضمت الى الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثامن عشر قد أسست أولى اديارها ومقار بعض بطاركتها في المنطقة الممتدة من حريصا الى بزمار في زمن تولي آل الخازن الحكم في كسروان. ولقد صدر كتاب قيّم حول هذا الموضوع للمستشرق الهولندي Richard Van Leeuwen في العام 1994.
هذا النفوذ الكبير الذي تمتع به مشايخ آل الخازن في شؤون الدين والدنيا خلال حقبة طويلة من الزمن، والذي بدأ يتراجع في القرن التاسع عشر، كان لابد ان ينتج نزاعات وتجاوزات في ممارسة السلطة في زمن ساد فيه الاقطاع في الشرق والغرب، قبل الثورة الفرنسية وبعدها. وليس مستغربا ان يقع الصدام بين الحاكم والمحكوم بعد تفكك السلطة المركزية منذ انهاء الامارة الشهابية في 1842 واعتماد نظام القائمقاميتين الذي ادى، بحسب كمال الصليبي، الى “مأسسة الحرب الاهلية”. هكذا تحول الجبل الى بيئة حاضنة للنزاع على السلطة، بعد انتقال السلطة من المركز، في زمن الامارة، الى الداخل، في زمن القائمقامية. وتفاقمت الازمة مع زيادة الضرائب المفروضة من اسطنبول، ومع الركود الاقتصادي، بعد فترة ازدهار ملحوظ، خصوصا في كسروان، بسبب تراجع تصدير الحرير اللبناني الى فرنسا، اضافة الى عوامل اخرى منها تضرر المحاصيل الزراعية بسبب رداءة الطقس في اوآخر خمسينات القرن التاسع عشر. (مروان بحيري، Chevallier).
اذا، سنوات احتضار نظام القائمقاميتين شهدت تراجعا سياسيا واقتصاديا في احوال الحكام والمحكومين، وصراعا متزايدا على السلطة داخل القائمقامية المسيحية، وفي كسروان بالذات، حيث مقر البطريركية والارساليات والاديار، وهي المنطقة المارونية الاقرب جغرافيا الى مركز القرار في بيروت. ولقد ارتبط الوضع الداخلي مع النزاع الدائر بين اسطنبول والدول الاوروبية النافذة في اطار “المسألة الشرقية” (La Question d’Orient) والتي كان جبل لبنان، وخصوصا كسروان، مسرحه في منتصف القرن التاسع عشر. هذا المشهد المأزوم، بأبعاده الداخلية والخارجية المتداخلة، شكل الارضية الخصبة للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي افرزت ثورة الفلاحين ضد الاقطاع الخازني، وهي التي انطلقت من زوق مكايل، في اوساط مالكي مشاغل النسيج وتجار الحرير، وهم من الوجهاء الميسورين، ومنهم الياس المنيّر والياس خضرا وحبيب الجاماتي ويوسف حبالين وسواهم.
وفي هذا السياق لابد من بعض التساؤلات: لماذا لم تحصل حركة شعبية ضد آل الخازن او سواهم من اصحاب السلطة قبل العام 1858، في مطلع القرن التاسع عشرمثلا (عامية لحفد في 1821 كانت ضد الامير بشير)، او في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، ما دام النظام السياسي والاقتصادي هو نفسه؟ لماذا كانت كسروان مسرحا لحركة الاعتراض وليس مناطق اخرى، مسيحية، كانت ام درزية ام مختلطة؟ وفي التفاصيل، لماذا كانت بدايات الحركة في غزير ضد مشايخ آل حبيش، ومن ثم انتقلت الى كسروان، وكانت انطلاقتها من زوق مكايل وانتقلت فيما بعد الى ريفون بقيادة طانيوس شاهين، بعد ان تنحى بعض اركان الحركة ومنهم صالح صفير وحبيب الجاماتي؟ نضع هذه التساؤلات في عهدة المؤرخين لاننا لا نملك اجوبة مقنعة ودقيقة عليها.
لقد كُتب الكثير عن طانيوس شاهين، الثائر ضد الاقطاع، ومؤسس اول جمهورية في الشرق، كما استوحى بعض الكتاب والشعراء روايات من نسج الخيال لأغراض سياسية، ومنهم، على سبيل المثال، زجليات الشاعر اسعد سابا. وفي ستينات وسبعينات القرن المنصرم برزت في اوساط اليسار اللبناني كتابات بخلفيات ايديولوجية في محاولة لابراز تاريخ الصراع الطبقي في لبنان، نُشر بعضها في مجلة الطريق الصادرة عن الحزب الشيوعي اللبناني.
اما التحليل الموضوعي للحدث فهو يظهر من خلال ابحاث مؤرخين، لبنانيين واجانب، استندوا في عملهم الاكاديمي الى الارشيف لدراسة تلك الحقبة، ومنهم المؤرخ الفرنسي Dominique Chevallier الذي تناول التاريخ الاقتصادي لجبل لبنان، والمؤرخ الاسرائيليYehoshua Porath الذي نشر في العام 1966 اول دراسة علمية شاملة حول انتفاضة الفلاحين في كسروان، والمستشرق الاميركي Malcolm Kerr، والمؤرخة الروسية Irena Smilianskaya، والمستشرق الالماني Axel Haveman، بالاضافة الى مؤرخين لبنانيين، منهم ايليا حريق، توفيق توما، عصام خليفه، الاب كرم رزق، اسامه مقدسي، ليلى فواز، مروان بحيري وسواهم. وثمة كتابات هامة من معاصري احداث تلك المرحلة، منها انطون ضاهر العقيقي، الخوري منصور الحتوني، و Charles Churchill، Henri Jalabert، وسواهم.
ولا بد هنا من ملاحظة حول مخطوطة العقيقي، وهي الاكثر انتشارا بين كتابات معاصري الحدث، نشرها يوسف ابراهيم يزبك في العام 1936، وهو احد مؤسسي الحزب الشيوعي اللبناني. لقد لاحظ مالكوم كير في مقدمة كتابه الصادر عن الجامعة الاميركية في بيروت في العام 1959، وهو ترجمة لكتاب العقيقي الى الانكليزية، ان اللغة المستعملة في المخطوطة التي نشرها يزبك تتضمن تعابير لم تكن متداولة في منتصف القرن التاسع عشر. والواقع ان التباين واضح بين النص الذي نشره يزبك حول تسلسل الاحداث والرسائل الموجهة من طانيوس شاهين ووكلاء القرى الى البطريرك بولس مسعد. ففي سرد الوقائع، تتداخل الفصحى مع العامية، بينما الرسائل تعتمد اللغة المحكية. وبحسب علمي، لم يطلع اي من الباحثين على النسخة الاصلية من مخطوطة العقيقي، الموجودة في مكتبة ابن يوسف يزبك، ابراهيم، في باريس.
تبقى الاشارة الى ان المصادر الاساسية لاي بحث تاريخي علمي موجودة في الارشيف والذي لم تتم دراسته بشكل كامل، لاسيما ارشيف بكركي والرهبانيات المارونية واللاتينية، وارشيف الاديرة في كسروان، خصوصا دير الكريم، ذلك ان مؤسس جمعية المرسلين اللبنانيين المطران يوحنا حبيب قام بدور وساطة بين آل الخازن وطانيوس شاهين بتكليف من البطريرك مسعد. اما الاهم فهو الارشيف العثماني والفرنسي والبريطاني وارشيف مكتبة الفاتيكان، وهي مصادر لم يتناولها المؤرخون في ابحاثهم، اضافة الى وثائق موجودة بحوزة افراد من آل الخازن. والحقيقة انه لايكتمل اي بحث علمي حول تلك المرحلة الا بالعودة الى هذه المصادر ذلك ان ما كتب الى اليوم استنفد معظم المراجع المعروفة والمنشورة.
الارشيف بالذات هو علة وجود كتاب انطوان سلامه الذي نحيي مبادرته في نشر هذا الكتاب ومثابرته في العمل البحثي. يستند الكتاب الى مخطوطة راهب عازاري مجهول الاسم، حيث كان للعازاريين دير في ريفون لم يعد قائما اليوم. يستعيد المؤلف الوقائع المعروفة للانقسامات التي ميزت تلك الفترة بين آل ابي اللمع، وبين القائمقام بشير احمد وآل الخازن، المنقسمين ايضا في ما بينهم، وبين الوالي العثماني وقناصل فرنسا وبريطانيا والنمسا في بيروت، بالاضافة الى البطريرك مسعد والرهبانيات اللاتينية والقاصد الرسولي. هذا التنوع، لابل التخبط الكبير، في مراكز القرار لازم الواقع السياسي في احداث تلك المرحلة. أما السياسة الدولية فشهدت نزاعا حادا بين الامبراطورية العثمانية، المربكة والمتراجعة في نفوذها وسلطتها منذ اقرار “التنظيمات”، والدول الاوروبية الساعية الى تعزيز دورها في صراعها في ما بينها ومع السلطنة في اطار “المسألة الشرقية” التي استمرت حتى سقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الاولى.
الاضافة الجديدة التي يقدمها الكتاب، استنادا الى مخطوطة الراهب اللعازاري، تظهر الرعاية والدعم الذي لقيه طانيوس شاهين من اللعازاريين في بداية الحركة، حيث كان يعمل في دير ريفون لعدة سنوات، ومن ثم تصدي الاباء اللعازاريين لطانيوس شاهين واعتراضهم على سلوكه الى حد طرده من عمله، خصوصا بعد ان قتل اتباعه امرأة من آل الخازن وابنتها في منزلها في عجلتون، وبعد ان استأثر بالمال وبالمحاصيل الزراعية وعمّت الفوضى والتعديات على الاملاك في قرى كسروان، حسب ما جاء في المخطوطة وفي مصادر اخرى.
يلتقي سلامه مع دارسي تلك المرحلة على الدور التوفيقي الذي قام به البطريرك مسعد لوضع حدّ للفلتان الذي فتح شهية الاتراك لوضع كسروان تحت سيطرتهم المباشرة. لكن ثمة مبالغة في كلام المؤلف عن مقاصد الارساليات حول “الوجود المسيحي الحر” (34)، وفي وصف واقع الحال في القائمقامية المسيحية بانها اشبه بمرحلة “آخر الازمنة” (ص.21). اما الكلام عن “العطب الاقلوي عند المسيحيين” فلا رابط له مع الحدث، وكذلك اظهار النزاع في آخر مراحله وكأنه تنافس بين طانيوس شاهين ويوسف بك كرم على الزعامة المارونية.
انحصرت الحركة في بعض القرى، خصوصا في وسط كسروان، وانقسم الاهالي بين مؤيد ومعارض لآل الخازن، الى ان تفاقمت الازمة بعد ان رفض المشايخ مطالب الفلاحين واتخذت منحى تصعيديا. اما ابرز المطالب فتمحورت حول المساواة في دفع الضرائب وحصر المأمورية في بيت واحد من آل الخازن بدل ثلاثة والغاء هدايا الاعياد والاعراس. وهي مطالب رفضها المشايخ، ما ادى الى تفاقم النزاع واستعمال العنف وخروجهم من كسروان وتدخل الوالي العثماني والقناصل. الا ان المسألة الاكثر خطورة وأهمية فكانت اندلاع الحرب الاهلية في 1860 في القائمقامية الدرزية. وهذا ما استدعى تدخلا دوليا غير مسبوق تمثل بارسال قوة عسكرية فرنسية وانعقاد مؤتمر دولي في بيروت للتصدي للفتنة الطائفية التي حصدت آلاف القتلى من المسيحيين في جبل لبنان وايضا في دمشق، لكن لاسباب غير مرتبطة باحداث جبل لبنان. انتهت هذه الحقبة المأزومة من تاريخ الجبل باعلان قيام نظام المتصرفية في 1861 الذي انهى مفاعيل نظام المقاطعجية.
ايها الاحباء، شهدت كسروان بين العامين 1858-1860 انتفاضة شعبية ضد الحاكم بسبب تسلط بعض افراد من آل الخازن ولاسباب مرتبطة بالصراع على السلطة، وتردي الاوضاع الاقتصادية في كسروان، التي وصفها Henri Guys في 1847 بانها كانت “الاكثر ثراء والاكثر كثافة من الناحية السكانية” في الجبل (Kesrouan est le plus riche et le plus peuplé). انها حركة اعتراض غير مسبوقة في حجمها وتداعياتها للحدّ من نفوذ الحاكم وامتيازاته، وهي بالتالي اقرب الى Jacquerie (soulèvement de paysans)، بحسب Chevallier، Porath ،Kerr ،Makdisi وسواهم، منها الى الثورة (revolution)، التي غالبا ما تطيح بالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم لتستبدله بنظام آخر، قد يكون اكثر عدالة ومساواة او اكثر استبدادا واحتكارا للسلطة. الواقع ان طانيوس شاهين ورفاقه لم ينقضوا في مطالبهم شرعية آل الخازن بتولي الحكم ولم يشككوا بشرعية ملكيتهم للارض، كما اشار المؤرخ Porath. وطانيوس شاهين، الذي لم يكن يجيد القراءة او الكتابة، لم يتأثر بالثورة الفرنسية وبكتابات Rousseau و Voltaire، كما زعم البعض، ولم يكن هدف الحركة اقامة جمهورية شعبية، بحسب ما أكد مؤرخو تلك المرحلة (Kerr، Porath، Makdisi، Chevallier)، لاسيما بعد ان تجاوزت التطورات صانعي الحدث انفسهم وطغت غايات الدول الكبرى على مسار الامور، وبات همّ البطريرك مسعد، وهو صاحب النفوذ الاكبر في تلك المرحلة في كسروان، احتواء الازمة بعد ان خرجت عن سيطرة الجميع وباتت تهدد مصالح الراعي والرعية في آن معا. والمفارقة في سيرة طانيوس شاهين ان لا ذكر له في الدراسات التي تناولت جبل لبنان بعد العام 1861، وهو الذي عاش نحو 35 سنة بعد الحركة الكسروانية. سؤال افتراضي لابد من طرحه في هذا المجال: ماذا لو لم يحصل الصدام الطائفي في 1860، كيف كانت ستؤول اليه الاوضاع في كسروان؟
يبقى ان الاحداث المتسارعة في كسروان بين العامين 1960-1958 تخطت قدرات الجميع على احتوائها بعد ان دخلت البلاد في اتون حرب اهلية مدمرة. لكن، ونحن اليوم نحاول ان نفهم طبيعة الحدث واسبابه وتداعياته بعد نحو 150 سنة على حصوله، فلقد آن الآوان لوضعه في سياقه التاريخي الموضوعي استنادا الى مصادر معلومات لم يتناولها الباقون، بعيدا من المزايدات والشعارات والسياسة والايديولوجيا.
ففي حين ان زمن الاقطاع قد ولى في القرن التاسع عشر، الا ان الطلب عليه لايزال قائما في القرن 21، وﺇن باشكال مختلفة، وفي مفاصل السلطة كلها، في السياسة والادارة والاقتصاد والمال. وكما تعلمون، ايها الاحباء، الطلب على الوجاهة والالقاب والتمايز الاجتماعي بكافة تعابيره، من ارقام الهواتف والسيارات المميزة على سبيل المثال لا الحصر، لايزال في احسن احواله. ولابد من الاشارة، اخيرا، ان طانيوس شاهين، قائد الثورة ضد المشايخ، اكتسب لقب شيخ وبيك، كما تُبيّن مراسلات تلك المرحلة. وقد يكون في كل واحد منا طانيوس شاهين ثائر وطانيوس شاهين شيخ، فلا تيأسو ولا تكلوا، فالصيت لآل الخازن والفعل لغيرهم.