Khazen

مصيرُ تَـجمُّـعِ 14 آذار بين صُـدقـيَّـتِه وصداقـاتِـه

مجلّة المسيرة في 27 شباط 2010

سجعان قزي 
 

1 ـ أبعاد انتماء الكتائب إلى 14 آذار 
 

      طبيعيٌ وجودُ حزبِ الكتائب اللبنانية في تجـمُّع 14 آذار، لأن الخِياراتِ والمبادئَ والشعاراتِ التي اعتمدها هذا التجمّع سنةَ 2005 هي استنساخٌ وطنـيٌّ لكل ما ناضلت الكتائب في سبيله منذ تأسيسها. وبالتالي، لا يُـعْـقلُ التفكيرُ في تَموضعٍ تحالفيٍّ آخر إذا حافظ هذا التجمّـعُ على وجودِه وعلى مبادئِ ثورةِ الأرز ومشروعِها، وانتظمَ في آلـيّـةٍ تقريريّـةٍ جماعـيّـة، وصان صُدقـيَّـتَـه تجاه شعبِه، وواصَل التصدّي لكلِّ طرفٍ يَـمُسّ بالسيادةِ الوطنيةِ من الداخل أو من الخارج، ولم يَنقل لبنان من وصايةٍ إلى أخرى.

      منذ نشوءِ دولةِ لبنان الحديثة سنة 1920، لم يَشهَد اللبنانيون تجـمّـعاً متعدِّدَ الأديانِ والطوائفِ والمذاهبِ والأحزابِ يَـتَّـحِد، لدى نشوئِه، على الأقل، حولَ فكرةِ لبنانَ المستقِل تجاه محيطِه العربي (لبنان أولاً)؛ وحولَ مشروعِ بناءِ دولةٍ سيدةٍ، حرة، ديمقراطية، مدنية، ومحايدة (ميثاق 1943)؛ وحول تحديدِ الأعداءِ والمعتدين (إسرائيل ودولٌ عربية وإقليمية ومجموعاتٌ إرهابية عابثةٌ بأمن لبنان وسيادته)؛ وحول تحديدِ الحلفاءِ والأصدقاء (دولُ العالمِ الحر ومجموعةُ دولٍ عربية وآسيوية داعمةٍ استقلالَ لبنان)؛ وحول تحديدِ المشاكلِ المصيرية وطُرقِ معالجتِها (الولاءُ الوطني، تطويرُ النظام، الحيادُ، اللامركزيةُ الموسعة، رفضُ التوطين، رفضُ السلاح غيرِ الشرعي، تحديدُ العلاقاتِ مع سوريا).

      مع ثورة الأرز سنة 2005، تحقق مشروع سنة 1920 للمرة الثالثة بعد سنتي 1943 (الاستقلال) و 1982 (الإجماع حول الــ 10452 كلم²).

      ÙÙŠ مفهومِنا الكتائبي، ثورةُ الأرزِ هي انتصارٌ يُحَـقِّـقُـه بيار الجميل الكبير من قبرِه، مثلما حَـقَّـق شارل ديغول، بعد غيابِه، أوروبا الموحَّدة من المحيطِ الأطلسي حتى جبالِ الأوُرال. كان ديغول يعتقد أنَّ الوِحدةَ الأوروبيةَ تُـعـزِّز دور فرنسا Ù€ القويَّـةِ بعد الحرب الثانية Ù€ في أوروبا بوجهِ حلفِ شَماليِّ الأطلسي. وكان بيار الجميل الكبير، وقد رَحلَ سنةَ 1984 قبلَ الـتَـغـيُّراتِ الكبرى، يَتمسَّكُ بصيغةِ الحياةِ اللبنانيةِ المشترَكة في عزِّ تشكيكِ اللبنانيين بها، ويَحلُم بقدرتِها على تخطّي الصعوبات، إذ آمنَ بأنها تُعـزِّز أيضاً دورَ الموارنةِ وسائرِ المسيحيّين في لبنان، وكانوا أقوياءَ آنذاك، وتُسهِم في توطيدِ انتماءِ لبنانَ إلى محيطهِ العربي. لكنَّ المفارقةَ اليوم، هي أنَّ المسيحيّين أصبحوا ضعفاءَ بعد اقتتالِهم، ومُهمَّشين بعد اتفاقِ الطائف، وأنَّ المحيطَ العربي ولَـجَ مرحلةَ حروبٍ كبرى، وغارَ في فتنٍ مذهبيةٍ تقسيمية، وسقطَ في قبضةِ الإرهابِ والظلامـيّـةِ والاحتلالِ الأجنبي، خلافاً لحركةِ سيرِ شعوبِ أوروبا نحو السلمِ والتحرّرِ والرُقيِّ والوِحدة. في السابقِ كانت المجتمعاتُ العربيةُ معتدلةً والأنظمةُ متطرِّفـةً، اليومَ تَطرَّفت المجتمعاتُ واعتدَلت الأنظمة. 
 

2 Ù€ قيم ثورة الأرز 
 

      Ø±ØºÙ… خوفِنا الصادقِ على مصيرِ ثورةِ الأرزِ ووِحدتِها ومناعتِـها ورهاناتِها الأساسية، تمـيَّـزت هذه الثورةُ، لدى ولادتِها، بخصالٍ وطنيةٍ ومَناقبيةٍ أبرزُها:

      1 Ù€ كانت ثورةُ الأرز حركةً توحيديَّـةً لا تحرريَّـةً فقط، مما أعطاها فرصةً حقيقية Ù€ ولو وجيزةً Ù€ لنقلِ لبنانَ من حالِ الانقسامِ إلى الوِحدة، ومن حالِ الاحتلالِ إلى التحرير. وكلُّ حركةٍ جماهيريةٍ تَجمَعُ هاتين الصفتين يُمكِنها أن تشكلَّ مشروعَ حُكمٍ وطنيٍّ جامع. لكنَّ مسارَ الأحداثِ أعاقَ الوِحدةَ والتحريرَ ومشروعَ الحكم.

      2 Ù€ كان كلُّ مُـكِّوناتِ ثورةِ الأرز (القادة والقواعد) متباعدين عقائدياً ووطنياً وسياسياً، ويَكَره بعضُهم البعضَ الآخر، فتخاصَموا وتَقاتلوا Ùˆ"تجازروا" طَوال عُقود، ثم أتت سنةُ 2005ØŒ فطَوَوا ماضيهِم الدمويَّ وانخرطوا عن قناعةٍ فكريّـةٍ ووعيٍّ وطنيٍّ ومصلحةٍ متبادَلةٍ، وبرعايةٍ عربيةٍ ودوليةٍ في تجمعٍ وطنيٍّ استثنائي. ومع أن أطرافَ هذا التجمعِ تحمَّلوا المسؤوليةَ بالتكافلِ والتضامنِ رَدْحاً من الزمن، فالعلاقاتُ الشخصيةُ بين بعضِ أركانِه ظلّت رسميةً وباردة.

      3 Ù€ كانت ثورةُ الأرزِ أهمَّ حركةٍ شعبيةٍ عفويةٍ عرفَها لبنان. وبَدت ثورةً مِن دونِ ثوّار، فالثورات ليست جُزءًا من خصائصِ الشخصيّـةِ اللبنانيةِ التاريخية. ورغم أنها خَرجت من رَحِمِ الدماءِ، بَـقيت ثورةُ الأرز بيضاء: لم تَحتَكِم إلى العنفِ، لم تَـقـتُل، لم تَنتقِم، لم تُعلِّق المشانق، لم تنفِ المعارضةَ، لم تَقتحِم القصورَ والمبانيَ الحكوميةَ والرسمية، ولم تُصدِر بَلاغاتٍ مُرقَّمة. كانت ثورةَ شجرةِ الأرز بوجهِ غابةِ البنادق، ونشيدَ الحريةِ أمام هدير الدبابات، وصوتَ الشعبِ ضِدَّ سَوْطِ النظامِ المستَبِدّ. ناضلَتْ من أجل شرعيةِ دولةٍ لا وصولاً إلى شرعيةِ ثورة. وهذه الميزاتُ قلّما طـبَعت انتفاضاتِ الشعوبِ إنْ في الشرقِ أو في الغرب.

      Ø¢Ù†Ø°Ø§ÙƒØŒ حازَ تجمعُ 14 آذار، وهو الإطارُ السياسيُّ لثورةِ الأرز، على إعجابِ الرأيِ العامِّ اللبنانيِّ، وعلى دعمٍ عربيٍّ ودوليٍّ وأمميٍّ شاملٍ باستثناء سوريا وإيران. واستَحصلَ لبنانُ على مجموعةِ قراراتٍ دوليةٍ متكاملةٍ حرَّرت أراضيه وحَصَّنت استقلالَه وكيانَه ودولـتَه. وانزَوَت القوى المواليةُ لسوريا وإيران، وجَرت انتخاباتٌ نيابيةٌ حرةٌ تقنياً، وخرج قادةٌ وطنيون من السجونِ، وعاد آخرون من المنفى، وسقطَ النظامُ الأمنيُّ القَمعيُّ، وأُدخِل رموزُه السجون.

      Ù„كنَّ إنجازاتِ تجمّعِ 14 آذار الإيجابيةَ لم تَمُر من دونِ إراقةِ دماء، فبعدَ اغتيالِ رفيق الحريري بَدأ مسلسلُ اغتيالاتٍ طالَ شخصياتٍ وطنيةً وسياسيةً ونيابيةً وعسكريةً وإعلامية، وحَصلت سلسلةُ تفجيراتٍ في بيروتَ والمناطق، وتَـعرَّض الجيشُ اللبنانيُ لمعموديةِ الدمِّ في مخـيَّـمِ نهرِ البارد فخاضَها موَحَّداً خِلافَ امتحاناتِه السابقةِ منذ سنةِ 1943. 
 

3 Ù€ جلجلة ثورة الأرز 
 

      Ù…نذُ انطلاقِها حتى اليوم، اجتازت ثورةُ الأرز مراحلَ وامتحاناتٍ متنوعةً يُمكِن فَـهْرَسَـتُها حسْبَ التسلسلِ التالي: الفجيعةُ الشرارة (استشهادُ رفيق الحريري). الحزنُ الغاضب (التشييعُ). التحدي المكشوفُ (تظاهرةُ 8 آذار). ثورةُ الأرز (ساحةُ الشهداء). الوِحدةُ الوطنية (تجمعُ 14 آذار). تثبيتُ الولاءِ (لبنانُ أولاً). الاغتيالاتُ المبرمَجة (شهداءُ الساحة). الفَـرْزُ الوطنيُّ (انسحابُ التيارِ الوطني الحر). الكَـبْوةُ الأولى (التحالفُ الرباعيُّ الانتخابيّ مع أمَل وحزبِ الله واعتمادُ قانونِ انتخاباتِ سنةَ 2000 وإعادةُ انتخابِ نبيه بري). الإنجازاتُ التاريخـيّـةُ (الانسحابُ العسكريُّ السوري، مبدأُ ترسيمِ الحدود، التمثيلُ الديبلوماسيُّ بين البلدين، المحكمةُ الدولية، إرسالُ الجيشِ إلى الجَنوب، وتطبيقٌ جُزئي للقراراتِ الدولية). الأفخاخُ المنصوبة (مؤتمرُ الحوارِ الوطنيِّ في مجلسِ النواب سنةَ 2006 والحكوماتُ الاتحاديّةُ والبياناتُ الوزارية المُقِـرَّةُ بسلاحِ حزبِ الله). الإحراجُ الكبير (حربُ 2006 وإفرازاتُها). المحاولةُ الانقلابيةُ لقوى 8 آذار (قطعُ الطرقات، إغلاقُ المطار، الاعتصامُ المفتوح، إقفالُ مجلسِ النواب، تعطيلُ انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهورية). التَـفـرُّدُ (ترشيحُ قائدِ الجيشِ لرئاسةِ الجمهورية من دونِ استشارةِ مسيحيِّي ثورةِ الأرز). الفِتنةُ الشيعيةُ / السُنـيّـةُ (7 أيار 2008). التسويةُ اللادستورية (مؤتمرُ الدوحة). الصَحوةُ الجديدةُ (الفوزُ بالانتخاباتِ النيابيةِ سنةَ 2009). الاهتزازُ الداخليّ (تَحفُّـظُ حزبِ الكتائب وانسحابُ وليد جنبلاط). التنازل عن مبدأي السيادة والاستقلال (قَـبولُ تبليغاتِ القمةِ السورية السعودية). الخيبةُ (حكومة الـ 15 Ù€ 10 Ù€ 5 شكلاً وتمثيلاً وبياناً).

      ÙˆØ³Ù’Ø·ÙŽ هذه الأجواءِ المتناقِضةِ واصلَ تجمُّـعُ 14 آذار مسيرتَـه الشاقّـة، وظَهرت اختلافاتٌ بين قادتِـه حولَ مفهومِ التغييرِ ومداهُ وآلـيَّـتِه. وإنْ صمدَ هذا التجمّعُ أمام الاختلافاتِ والتحديّـاتِ والاغتيالات، فإنه تَـرنَّح أمام الهجومِ المُضاد الذي شَـنَّـتهُ بصبرٍ وثَبات، سوريا وإيران وامتدادُهما اللبنانيّ المُـتَـمَـثِّـلُ بتجمُّـعِ 8 آذار. لقد اكتشف هؤلاء نقاطَ الضُعفِ لدى بعضِ مُكَـوِّنات تَجمّعِ 14 آذار، فاستعادوا أنفاسَهم ومعنوياتِهم وأجهَضوا مفاعيلَ ثورةِ الأرز الواحدَ تِلوَ الآخر. لوَّحوا براياتِ الحوارِ والمصالحةِ والمشاركةِ تارة، ولجأووا إلى الشارعِ والعنفِ وتعطيلِ المؤسساتِ تارةً أخرى حتّى نجحوا في ضرْبِ مشروعِ بناءِ الدولةِ المستقلةِ، وأعادوا نفوذَ سوريا بِحُـلَّةٍ جديدةٍ وعـلَّقوا تطبيقَ القراراتِ الدوليةِ، وبخاصةٍ القراراتِ 1559 Ùˆ 1595 Ùˆ 1680 Ùˆ 1701. والحق يُقال، إنَّ إنجازاتِ تجمّعِ 14 آذار إيجابيةٌ، وإنجازاتِ تجمّعِ 8 آذار سلبية. كما أن قُدرةَ 14 آذار على التحرّكِ محدودةٌ لأنه يُراهنُ على مؤسّساتِ الدولةِ ويَخضَعُ لها؛ بينما قدرةُ 8 آذار مستقلةٌ لأنه يَملِكُ قوةً عسكريةً منفصلةً عن الدولة.

      Ø±ÙØºÙ… انزعاجِ المكَـوِّنِ المسيحيِّ من بعضِ مظاهرِ التفَـرُّدِ والهيمنةِ داخلَ تَجمَعِ 14 آذار، ظلَّ متضامناً مع حلفائِه المسلمين لعدّة أسبابٍ أبرزُها: حِرصُ المسيحيّين على المحافظةِ على الميثاقـيّـةِ الجديدةِ بينَهم وبين المسلمين والدروز، ضُعفُ التنسيقِ بين مسيحيّي 14 آذار، اقتناعُ الأحزابِ المسيحيةِ بفوائدِ التواصلِ مع الـبُعدَين العربيِّ والدوليِّ لتجمّعِ 14 آذار. ترك هذا الموقِفُ لدى الرأيِ العامِّ المسيحيِّ انطباعاً بأن مسيحيّي 14 آذار خاشعين للقيادةِ السُـنّية. من الناحيةِ القياديّـةِ، يوجد مارونـيّـةٌ سُنّيةٌ (أرجحيةُ تَـيّـارِ المستقبلِ في اتخاذِ القرارات)ØŒ أما من الناحيةِ الفكرية Ù€ وهذا هو الأهم Ù€ فيوجدُ سُنّيةٌ مارونـيّـةٌ (اعتمادُ السُـنّـةِ الخياراتِ المارونـيّـةِ التاريخية). لكن الانطباعَ الأولَّ ظَلَّ راجِحاً، فتعذَّر على مسيحيّي 14 آذار استيعابَ الرأيِ العامِّ المسيحيِّ لاحقاً، فربِح ميشال عون الانتخاباتِ النيابـيَّـةَ في مُعظَمِ دوائرِ جبلِ لبنانَ المسيحيِّ، رُغم ازديادِ خيبةِ أَملِ الشعبِ المسيحيِّ من سياستِه وتحالفاتِه وانتقادِه البطريرك الماروني. لذا إن تعزيزَ دورِ الأحزابِ المسيحيّة في تجمّعِ 14 آذار لا يُضِرُّ بهذا التجمّعِ ولا يُـنَـغِّصُ مسيرتَـه، لا بل يضاعفُ مناعتَه ويُخفِّف من تأثيرِ انسحاباتٍ جُزئـيّـةٍ منه. 
 

4 Ù€ إشكالية النظرة إلى 14 آذار 
 

      Ø­Ø³Ù†Ø§Ù‹ تَفعل القوى المسيحـيّـةُ بتخطّي الهوامشِ وبالدعوةِ إلى استنهاضٍ جديدٍ لتجمّعِ 14 آذار فيولدُ ثانيةً من مرارةِ التجربةِ بعدما وُلدِ من هوْلِ الصدمة. هذا هو معيارُ المحافظةِ على تَجمّعِ 14 آذار، لا البقاءُ فيه وتجويفُه والانقلابُ على مبادئِه وثوابتِه أو تَمييعُها وتَسْيِيلُها وتجييرُها. فعدا أنه يُجسِّدُ حُلماً وطنيّـاً لطالما تَشوَّقنا إلى ترجمتِه، إن تجمّعَ 14 آذار، بمفهومِه الساميِّ المتجَرِّد، هو اللبنانيون معاً. هو يومٌ موجودٌ في كل الأيامِ منذ سنةِ 2005. هو سؤالُ التاريخِ اللبنانيِّ للحاضرِ بعد انقساماتِ الماضي. هو جوابُ اللبنانـيّين للمستقبلِ تِجاه غموضِ الحاضر. وهو الكيانُ الحقيقيّ والوطنُ الأصيل والدولةُ الديمقراطية والمجتمعُ التعدّدي والوِحدةُ الوِجدانية والرسالةُ الروحية والهويّةُ المركّـبَة. إن تَجمّعَ 14 آذار هو مُحتَـرَفُ المشروعِِ اللبنانيِّ حيثُ يُـعادُ تجميعُ قُـطعِ الميثاقِ الوطنيِّ الذي بدأ يتطايرُ منذ سنةِ 1958.

      Ù‡ÙƒØ°Ø§ أفهمُ 14 آذار. لا أَفهمُه فريقاً سياسياً، وتجمّعاً انتخابـيّـاً، وحركةَ موالاةٍ أو معارضة، وقوةً في الأكثريةِ أو الأقلية. ولا أَفهمُه خَصمَ الشيعةِ وسائرِ قوى 8 آذار، وضدَّ سوريا وإيران حتماً. إذا سقط تجمّعُ 14 آذار يَسقُط ميثاقَ لبنان، أما إذا سقطَ تجمّـعُ 8 آذار فتسقُطُ المعارضةُ فقط. وما دعمُ المرجعياتِ العربيّةِ والدوليّة لتجمّعِ 14 آذار Ù€ وهذا مصدرُ فخرٍ Ù€ سوى جُزءٍ من دعمِهم استقلالَ لبنانَ وسيادتَه ونظامَـه الديمقراطيَّ والشرعيةَ اللبنانية. إنهم يَدْعَمونَـه من أجلِ لبنانَ وليس ضِدّ أحد.

      Ù„كن المشكلةَ أنَّ تجمّعَ 14 آذار لا يَنظرُ هكذا إلى نفسه، كما أن مناهضي مشروعِه الاستقلاليِّ تَعاطَوْا معه كفريقٍ سياسيٍّ وكجُزءٍ من الصراعاتِ الدائرةِ في لبنانَ والمِنطقة، فكان لا بُـدَّ له من أن يدافعَ عن نفسهِ تِجاه الاضطهادِ السياسيِّ والأمنيّ والعسكريّ والدمويّ الذي تَـعرّض له، حتى أنَّ بعضَ أركانِ 14 آذار رفعَ سقفَ العداءِ، المُـبَـرَّر بجوهرِه لا بتعابيرِه، ضدَّ أفرقاءَ لبنانيّين وعربٍ وإقليميّين من دونِ قُدرتِه على الصمودِ حتى النهايةِ ومحاسبةِ هؤلاء وإلحاقِ الهزيمة بهم. 
 

5 Ù€ تَـغيُّـر الأزمنة والمعادلات 
 

      Ø­ÙŠÙ† تَحملَّ تجمّـعُ 14 آذار مسؤولياتِه ووَثِقَ بمسيرتِه وقَدَرِه، كان موجوداً ومُـتَّحِداً خِلافاً لواقِعه اليوم: قادتُه يتواصلون بالواسِطة ويَجتمعون خِلسةً، كلُّ واحدٍ منهم يَبحثُ منفرِداً (ومُستَـفرَداً) عن مخرجِ طوارئ، وأمانتُه العامة انتهزت الفرصةَ فصارت أمانةً خاصة. تِجاه هذا الواقع، لا يَنتظرُ أركانُ تجمّعِ 14 آذار أن يقولَ لهم شعبُ ثورةِ الأرز: "أَغفِر لهم يا أبتاه، فإنهم لا يَعلمون ماذا يفعلون"…

      Ø­ÙŠÙ† حقَّق تجمّعُ 14 آذار عدداً من أهدافِه الوطنية، كانت سياسةُ الولاياتِ المـتَّحدةِ الأميركية في الشرقِ الأوسط وآسيا الصُغرى هجوميةً من أفغانستان والعراق إلى سوريا ولبنان، فدَعمَت جِدِّيـاً حركاتِ التحرّرِ في الشرقِ الأوسط وشجَّعت على نشرِ الديمقراطية. يومَها كانت الإدارةُ الأميركيةُ في واشنطن تَـعُجُّ بالصقورِ على مختلَفِ المستويات وفي كلِّ المواقعِ الحسّاسة، وكان الرئيسُ الفرنسيّ، جاك شيراك، مديرَ عملياتِ البحث عن الحقيقة (إغتيال رفيق الحريري)ØŒ وكانت سوريا وإيران في عُزلةٍ شِبهِ كاملة.

      Ø±ØºÙ… كلِّ هذه الظروفِ المؤآتيةِ، ظلّت إنجازاتُ تجمّعِ 14 آذار، على أهميَّـتِها التاريخيّة، دونَ مستوى الالتفافِ الشعبيِّ والدعمِ الدولي. اعتبر بعضُ أركانِ التجمّعِ أن انسحابَ جيشِ سوريا أنهى نفوذَها في لبنان، ولا بدّ لنظامِها من أن يَسقطَ تدريجاً. لقد سها عن بالِ البعض أنَّ نفوذَ سوريا في لبنان، بعد اتفاقِ الطائف، لم يَـعُد يَـتَمثَّـل أساساً بوجودِها العسكريِّ بل بالنظامِ اللبنانيِّ المصنوعِ في دِمشقَ والقابضِ على كلِّ مؤسساتِ الدولةِ اللبنانيةِ من دونِ استثناء. وسها عن بالِ البعضِ الآخَر أنَّ النظامَ السوريّ منيعٌ ما دامت تل أبيب تُـفَضِّل بقاءَه، وواشنطن حائرةً بين تغييرِه أو تعديلِ سلوكِه، فبقيَ النظامُ السوريُّ وغَـيَّرت واشنطن سلوكَها تِجاهه وعادت قوافلُ المسؤولين اللبنانيّين والسياسيّين تَسلُك طريقَ الشام.

      Ø¥Ù†Ù‘ÙŽ أحدَ الأخطاءِ الجسيمةِ التي ارتكَبها أركانٌ من تجمّعِ 14 آذار، هو توظيف الجُزءِ الوافرِ مِن الدعمِ الشعبيِّ والدوليِّ في مشروعِ المحكمةِ الدوليةِ على حسابِ استكمالِ مشروعِ السيادةِ والاستقلالِ وتطهيرِ الدولةِ من مسؤولي المرحلةِ السابقةِ ومن الفساد (لربما كان ذلك مُحرِجاً لبعضِ أعضاءِ 14 آذار). لقد اعتقد هؤلاء، وعن حسنِ نـيّـة، أنَّ عملَ المحكمةِ سيكون سريعاً فـتُـصدِرُ أحكامَها وتَنجلي الحقيقةُ وتُحقِّـق 14 آذار من خِلالِ العدالةِ ما لم تُحقِّـقْـهُ من خِلال السياسة. فإذ بالتطوراتِ المتعدِّدةِ المصدَر، وبخاصةٍ من مجموعةِ الدعمِ العربيِّ والدوليّ، تُـفاجِئُ 14 آذار، فتخسَرُ في السياسةِ وفي العدالة.

      Ù„ما انـتَبه تجمّعُ 14 آذار إلى ضرورةِ استلحاقِ الوقتِ الضائعِ، بل المهدور، وإتمامِ مشروعِه، كان الزمنُ تَـغـيّر في كلِّ مكان، مِن لبنانَ حتى واشنطن مروراً بسوريا والسعودية وباريس: اعتبرَ حزبُ الله صمودَه أمام إسرائيل انتصاراً تاريخياً فوظَّفه في الداخلِ اللبناني في إطارِ مشروعٍ إنقلابي حَدُّه الأقصى: استلامُ الدولة، وحَـدُّه الأدنى: استسلامُ 14 آذار. انتهت ولايةُ شيراك وبدأ خليفـتُـه، نيقولا ساركوزي، الحوارَ مع سوريا. تَـعثَّر المشروعُ الأميركيُّ في الشرقِ الأوسط وآسيا الصغرى، ذهبَ بوش وأتى أوباما فبـدَّل منطقَ الحربِ بمنطقِ التفاوض. تَحوَّلت الأولوياتُ باتِّجاه العراق وأفغانستان وباكستان. احتَجبَ الدورُ المصريُّ نِسبيّـاً، ودخلت تركيا العالمَ العربيَّ تلعبُ دورَ الوسيطِ بين سوريا وإسرائيل. نَشبَت الحربُ مع الحوثـيّين في اليمن والسعودية، فتحرّكت السعوديةُ وتَصالحت مع سوريا وكَـرَّت سُبحةُ التنازلات. تَباطَـأ عملُ المحكمةِ الدوليةِ وانتقلت أصابعُ الاتهام إلى جِهاتٍ إضافـيّـة. إلخ… بكلمة، مرّت أربعُ سنوات، وكانت كافية، دَعمَ المجتمعُ الدوليّ اللبنانيين ليستعيدوا، انطلاقاً من مبادئ ثورة الأرز، سيادتَهم ويُرتِّبوا بيتَهم الداخليّ ويَبنوا دولةً جديدةً، لكنهم تَباطأوا Ø› فبدأت مرحلةٌ أخرى هاجِسُها الحفاظُ على ما أُنجِز من استقلالٍ واستقرارٍ من خلالِ سياسةِ التسوياتِ والتنازلاتِ بانتظارِ تَـغَـيُّرٍ ما في موازينِ القوى اللبناني والإقليمي. 
 

6 Ù€ من العبور إلى الدولة إلى الميثاق الجديد 
 

      ØªÙØ¬Ø§Ù‡ مختلَفِ هذه المعطياتِ والتطورات، ضَـعُفَ التضامنُ بين مُكَـوْناتِ تَجمّعِ 14 آذار، ولم تَتمكَّن من إيجادِ إطارٍ تنظيميٍّ فِعليّ لتعدّديتِها الحزبيةِ والسياسية، فيما أَخفقت أمانتُه العامةُ في لَعبِ دورٍ جامع. وحاولت القوى المسيحيةُ في 14 آذار الحدَّ من هذا الانحدارِ والانعطاف، لكنَّ لعبةَ الأممِ جَرفَـتْها أيضاً، فاكتفت بالتحفّظِ عن البندِ السادسِ من البيانِ الوزاريِّ بعدما هُـمِّشَت على صعيد التمثيلِ الحكومي.

      Ù‡Ø°Ø§ الانعطافُ، المَشوبُ بالغصَّة، الذي فُرِض على تجمّعِ 14 آذار، لاسيما على مُكـوّنِه المسلِم، نَجحَ تَيار المستقبلِ بتغطيتِه عَبر المشاركةِ الشعبية في الذكرى الخامسةِ لاستشهادِ الرئيس رفيق الحريري. غيرَ أنَّ غالبيةَ الخِطاباتِ كانت خُطبَ المرحلةِ الجديدةِ لا خطبَ المهرجانِ الجديد. فأتى مضمونُها، لا لهجتُها فقط، امتداداً لمؤتمرِ الدوحة والقِمةِ السعوديةِ Ù€ السورية، ودونَ مستوى توقّـعاتِ وأحلامِ شعبِ ثورة الأرز. ورغم ذلك يستطيع تجمّعُ 14 آذار، بعدُ، أنْ يَـتـَّـكلَ على التجاوبِ الشعبيّ النِسبيّ لإعادةِ صياغةِ نفسِه على أسسٍ تَـقِيه الوقوعَ مُجدَّداً في التجاربِ الأليمةِ السابقة.

      ÙˆÙÙŠ هذا الإطار نقترح أن يَضعَ تجمّعُ 14 آذار ميثاقاً سياسياً ووطنياً جديداً نَعرفُ من خلاله ماذا يَجمعُ، بعدُ، أطرافَه وماذا يُفرِّقُهم. فمع اتفاقِهم على العناوينِ الكبرى، تَبيَّن حديثاً أن أطرافَ 14 آذار مختلفون على قضايا مصيريةٍ ودستورية وعلى نَمَطـيَّـةِ التعاطي النِدِّي في ما بينهم. بعدَ وضعِ هذا الميثاقِ يُصبح السؤالُ حول استمرارِ انتمائِنا إلى 14 آذار مُـبَـرَّراً والجوابُ واضحاً. فتجمع 14 آذار السابق في حالة تَحَـلُّلٍ كيمائيٍّ وتَـقَـمُّصٍ فيزيائيّ، مع أن شعبَ ثورةِ الأرزِ يزدادُ ويَقوى (نتائج الانتخابات الطلابية والنقابية والنيابية).

      Ù„Ù… يَعد رفعُ شعارِ العبورِ إلى الدولة يُشكِّل، وحدَه، مادةً نضاليةً مُغرية، كما أننا نريدُ أن نعرفَ شكلَ الدولةِ التي نُدعى إلى العبورِ إليها؟ فالدولةُ الماضيةُ لم تَحمِ المسيحيَين ولا المسلمين. والحاليةُ، ببُنيتِها، بضُعفِها، بشلَلِها، بفسادِها، بمساوماتِها وبتنازلاتِها، تدعونا إلى الخروجِ منها أكثرَ من الدخولِ إليها. هذه هي الحقيقة… أما الحقيقةُ الأخرى فاستُشهِدَت أخيراً، وهي ترجونا ألا نُصِرَّ على معرفَةِ من اغتالها…

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>