عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي الأحد الأوَّل بعد عيد الصَّليب: طلب إبني زبدى دير سيّدة إيليج – الأحد 20 أيلول
2020 “لأنَّ ابنَ الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُمَ، ويَبذُلَ نفسَهُ فِداءً عن كثيرِين” (مر 45:10) 1. ربُّنا يسوع المسيح، إبنُ الله الازليّ الذي صار ابنَ الانسان في الزمن، جاء أرضَنا ليفتديَ بموته على الصَّليب خطايا البشريَّة جمعاء، ويَبعثَ في الإنسان، بقيامته، الحياةَ الجديدة. فتركَ للعالمِ نهجًا جديدًا من أجل استمراريَّةِ عمل الفداء، وانبعاثِ الحياة الإلهيَّة في كلِّ شخصٍ يولَد في العالم. هذا النهج كشفَهُ ليعقوب ويوحنَّا، داعيًا إيَّاهما إلى شُربِ كأس الألم معه، والاصطباغ بمعموديَّة الدمّ، “لأنَّه هو – ابنَ الإنسان- لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم، ويَبذُل نفسَه فداءً عن كثيرين” (مر 45:10). إنَّه نهج الخدمةِ المتفانية وبذلِ الذات، نهجُ الشُّهداء بامتياز، على مرِّ العصور. 2. ها نحن نواصِلُ تقليدًا في سنتِهِ الرَّابعة والعشرين، ونحتفل بالذَّبيحة الإلهيَّة إحياءً لشهداء المقاومة اللُّبنانيَّة الخمسة آلاف الذين ضحَّوا بنفوسهم من أجل حماية الإيمان المسيحيّ والوطن لبنان دون سواه، ودُوِّنت أسماؤهم في هذا المكان المقدَّس، وقد سبقَهُم بطاركتُنا القدِّيسون الذين عاشوا هنا بحماية سيّدة إيليج، مدَّة ثلاثماية وأربع وعشرين سنة، من 1120 إلى 1444 في كلِّ عهد المماليك المظلِم حتَّى بدايات الأمبراطوريَّة العثمانيَّة الصَّعبة، ومن بين هؤلاء البطريرك الشَّهيد جبرايل حجولا الذي أُحرِق حيًّا في ساحة طرابلس.
إنَّ شهداء المقاومة اللُّبنانيَّة أرووا تراب الوطن بدمائهم، ليُثمر مواطنين مؤمنين مخلصين يشمخون بكرامتهم مثل غابة الأرز هذه التي غُرسَت إحياءً لذكرى المئة والستَّة وثلاثين شهيدًا راقدين هنا في مدافن الشهداء. 3. أودُّ أن أحيّي معكم رابطة سيّدة إيليج التي، مع رئيس دير سيّدة ميفوق ودير مار شليطا القطارة والآباء، تعتني بهذا المقرّ البطريركيّ، وتحيي ذكرى الشُّهداء، وتعمل على المحافظة على ذاكرة المقاومة اللُبنانيَّة وتراثِها الفكريّ وولائِها للبنان الوطن الغالي الذي منه تنبع الكرامة، وشرفُ الانتماء إليه دون سواه، والتَّضحيةُ في سبيل إعلاءِ شأنه دولةً وكيانًا وشعبًا أبيًّا. وقد جسَّدَ كلَّ ذلك الرئيسُ الشَّهيد الشيخ بشير الجميّل، فأضحى فخرَ الشُّهداء. ٤. إختارت رابطة إيليج شعارًا لهذا الاحتفال: “أمِّي وطني” تكريمًا لأمَّهاتِ الشُّهداء، ولكلِّ أمٍّ تتفانى في سبيل عائلتها، وتكرِّمُ الرَّابطةُ ثلاثًا منهنَّ أنجبنَ، واحدة أحد عشر ولدًا واثنتان اثني عشر، للدَّلالة أنَّ الأمَّ تُنجِبُ أولادًا للوطن، وتُؤمِّن له مسيرةَ الأجيال الجديدة. إنَّ شعارَ “أُمّي أُمَّتي” ينطبق أيضًا على الدولة الأمّ بالنسبة إلى المواطنين. فيا ليت المسؤولين السياسيّين الممعنين في قهر المواطنين وإذلالهم، من أجل مصالحهم الخاصَّة، مستغلّين سلطتهم ونفوذهم ومالهم وسلاحهم، يعودون إلى نفوسهم، ويخافون الله في عباده.
5. في هذا السياق نتساءل: بأي صفة تطالب طائفةٌ بوزارةٍ معيَّنة كأنَّها ملكٌ لها، وتُعطِّل تأليف الحكومة، حتَّى الحصول على مبتغاها، وهي بذلك تتسبَّب بشللٍ سياسيّ، وأضرارٍ اقتصاديَّة وماليَّة ومعيشيَّة؟ أين أضحى اتفاق القوى السياسية المثلّث من أجل الاصلاح: حكومة انقاذ مصغّرة، وزراء اختصاصيون مستقلون ذوو خبرة سياسية، المداورة في الحقائب؟ إذا عدنا إلى المادَّة 95 من الدستور الذي عدَّلَه اتّفاق الطائف، نقرأ صريحًا في الفقرة باء: “تكون وظائف الفئة الأولى – ومن بينها الوزارات – مناصفةً بين المسيحيّين والمسلمين دون تخصيص أيَّةٍ منها لأيَّة طائفة مع التقيُّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة”. فهل عُدِّلَت هذه المادَّة في غفلةٍ، أم تُفرض فرضًا بقوَّةٍ ما أو استقواء؟ هذا غير مقبول في نظامنا اللُّبنانيّ الديموقراطيّ التنوّعيّ. ثمَّ أيُّ علمٍ دستوريٍّ يجيز احتكار حقيبة وزاريَّة؟ نحن نرفض التخصيص والاحتكار، رفضًا دستوريًّا، لا طائفيًّا، ورفضُنا ليس موجَّهًا ضدَّ طائفةٍ معيَّنة، بل ضدَّ بدعةٍ تنقُضُ مفهوم المساواة بين الوزارات، وبين الطَّوائف، وتمسُّ بالشَّراكة الوطنيَّة ببعدها الميثاقيّ والوحدويّ بهدف تثبيت هيمنة فئة مستقوية على دولةٍ فاقدةٍ القرار الوطنيّ والسيادة. 6. ما أبعدَ هذه الممارسة عن الثقافة الجديدة ومفهوم السلطة الأصيل التي حملَها الرَّبُّ يسوع إلى المجتمع البشريّ، إذ قال: “من أراد أن يكون فيكم كبيرًا، فليكن لكم خادمًا. ومن أرادَ أن يكون الأوَّل فليكن للجميع خادمًا” (مر10: 43-44). وجعل من نفسه قدوة، قائلاً: “فإنَّ ابنَ الانسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم، ويَبذُلَ نفسَه عن كثيرين”(مر 45:10). المسؤولون السياسيّون الذين يسيرون في نهج هذه الثقافة الجديدة، وفي مفهوم السلطة الأصيل، هم الذين يبنون الأوطان، ويُخلِّدون أسماءهم في تاريخها. أمَّا الأموال التي يكدِّسها “تجَّار السّياسة” على حساب الشعب، فتُدفَن معهم، وهم معها. ويا ليتهم ما كانوا! 7. فيا رئيس الحكومة المكلَّف ندعوك لتتقيَّد بالدستور، وتَمضي في تأليف حكومةٍ يَنتظرُها الشعبُ والعالم. فلا داعي لا للخضوع لشروط ولا للتأخير ولا للاعتذار. إنَّ تحمُّلَ المسؤوليَّة في الظرف المصيريِّ هو الموقفُ الوطنيُّ الشُّجاع. فمَن أيّدوكَ فعلوا ذلك لتؤلِّفَ حكومةً لا لتَعتذِر. ورغمَ كلِّ الشوائب، لا يزال النظامُ اللبنانيُّ ديمقراطيًّا برلمانيًّا، ويتضمَّنُ آلياتِ التكليفِ والتشكيلِ ومنح الثقة أو عدمِ منحِها. فألِّف ودَعِ اللعبة البرلمانيّةَ تأخذُ مجراها. وأنت ولستَ وحدَك.
8. بالنسبة إلينا، لسنا مستعدِّين أن نعيد النظرَ بوجودِنا ونظامِنا كلَّما عَمَدنا إلى تأليفِ حكومة. ولسنا مستعدّين أن نقبَلَ بتنازلاتٍ على حسابِ الخصوصيَّةِ اللُّبنانيّةِ والميثاقِ والديمقراطيَّة. ولسنا مستعدّين أن نبحث بتعديلِ النظامِ قبل أن تَدخُلَ كلُّ المكوّناتِ في كنفِ الشرعيَّة وتتخلَّى عن مشاريعِها الخاصّة. ولا تعديلَ في الدولةِ في ظلِّ الدويلات أو”الجمهوريَّات” بحسب تعبير فخامة رئيس الجمهوريَّة. فأيُّ فائدةٍ من تعديلِ النظامِ في ظِلِّ هيمنةِ السِّلاح المتفلِّتِ غيرِ الشرعيّ أكان يَحمِلُه لبنانيّون أو غيرُ لبنانيّين. إنَّ إعادةَ النظرِ في النظامِ اللُّبنانيّ وتوزيعِ الصلاحيّاتِ والأدوار يَتِمُّ ــــ إذا كان لا بدَّ منه – بعد تثبيت حياد لبنان بأبعاده الثلاثة: بتحييده عن الأحلاف والنِّزاعات والحروب الإقليميَّة والدوليَّة؛ بتمكين الدولة من ممارسة سيادتها على كامل أراضيها بقوَّاتها المسلَّحة دون سواها، والدفاع عن نفسها بوجه كل اعتداء خارجي، ومن ممارسة سياستها الخارجيَّة؛ بانصراف لبنان إلى القيام بدوره الخاص ورسالته في قلب الأسرة العربيَّة، لجهة حقوق الشعوب، وأُولاها حقوق الشَّعب الفلسطينيّ وعودة اللَّاجئين والنَّازحين إلى أوطانهم، ولجهة التقارب والتلاقي والحوار والاستقرار.
9. في ضوء ما يتميَّزُ به لبنان في صيغته التَّعدُّديَّة ثقافيًّا ودينيًّا، وإقرار “حريَّة إبداء الرّأي قولاً وكتابةً وحريَّة الطباعة والتأليف” بموجب المادَّة 13 من الدستور، لا يسعنا إلاّ التعبير عن أسفِنا لرؤية رجل دينٍ معروف بوطنيَّتِه وحرصه على العيش المشترك واحترامه لكل دين وطائفة، وباخلاصه للبنان، يُستدعى أمام القضاء لمجرَّد إبلاغٍ معروف مصدره وغايته. أبهذه البساطة أصبح يتحرَّك القضاء عندنا خلافاً لمبدأ تبيان “الدخان لقضية قائمة”، فيما هو يتقاعسُ حيالَ القضايا الأساسّيةِ الأخرى؟ فأين أصبحت ملفاتُ الفساد الكبير والهدرِ الأكبر؟ وأين أصبحت التحقيقاتُ في الموادِّ الغذائيّة والأدوية؟ وأين أصبحت التحقيقاتُ في تهريب الملايين والمليارات من الاموال؟ وأين أصبحت التحقيقاتُ في تفجير المرفأ وقد مضى عليه ستة وخمسون يومًا؟ 10. في زمن ارتفاع الصَّليب المقدَّس، وفي ذكرى شهداء المقاومة اللُّبنانيَّة، وبحضوركم أيها الشهداء الاحياءالذين تحملون في أجسادكم آثار مسامير الوطن وصليبه، نلتمس من الله، بحقّ دماء الفادي الإلهيّ، وتضحية الشهداء بحياتهم، أن يبعث وطننا لبنان إلى حياةٍ جديدة بإنسانه ومؤسَّساته. فنرسم على صدورنا، كعلامة نصر ورجاء، إشارة الصَّليب، باسم الآب والابن والروح القدس، آمين. * * *
admin
Khazen History
Historical Feature: Churches and Monasteries of the Khazen family