فارس خشان — annahar.com لم تحرّر حكومة مصطفى الكاظمي العراق من “سطوة” الميليشيات المرتبطة بإيران. كلّ ما فعلته أنّها أثبتت، بالأقوال، استقلاليتها عنها، وبيّنت، بالممكن من الأفعال، نيتها مواجهة انحرافاتها.
ولكنّ النتائج الضحلة التي حققتها هذه الحكومة العراقية، كانت كافية، بفعل ثبوت “حسن النيات”، ليلتف المجتمعان العربي والدولي حولها، في محاولة لتوفير ما يلزمها من إمكانيات.
ولا يشذ عن هذا المسار نجاح مؤتمر “قمة دول جوار العراق” المتصارعة و”المتمحوِرة”، الذي انعقد، عشية الانتخابات النيابية المقررة في تشرين الأوّل ( اكتوبر) المقبل، بعدما كان قد جرى تبكير مواعيدها، نزولاً عند مطالب “الحراك الشعبي”، صاحب الفضل الأوّل في تشكيل حكومة الكاظمي وفرض الخط السيادي في برنامج عملها.
ولكن، لماذا يُحظّر على بيروت ما يُتاح لبغداد؟
الجواب عن هذا السؤال بسيط، من دون ان يقع في التبسيط: العراق يقدّم أدلّة على نهجه “التحرّري”، بينما يُمعن لبنان في سقوطه،يوماً بعد يوم، ومنذ وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، في قبضة “حزب الله”.
وهذه لم تكن حال لبنان قبل سنوات، فقد أرسى عهد الرئيس السابق ميشال سليمان “شيئاً من الكاظمية” على الواقع اللبناني، حين عمل، بلا هوادة، على تقديم صورة للبنان تفصل بين حكومته ومؤسساتها، من جهة أولى و”حزب الله” من جهة ثانية.
وقد جرى تتويج هذا المسار بالتوصّل الى “إعلان بعبدا” الذي أصبح وثيقة من وثائق الأمم المتحدة، وحين انقلب “حزب الله” على هذا الإعلان، ردّ سليمان بأنْ رفع وتيرة “استقلاليته” التي ترجمها بوصف “معادلة حزب الله الذهبية”(الشعب، الجيش والمقاومة) بالمعادلة الخشبية.
وتوهّم المجتمع الدولي، بناء على تسويق قوى لبنانية “رضخت” لقرار انتخابه، أنّ ميشال عون سوف يواصل، بقوة أكبر، المسار الذي خطّه ميشال سليمان، فكانت المؤتمرات والتعهّدات العربية والدولية و”الرهان الفرنسي”، ولكن خاب ظنّ الجميع، ففي عهد ميشال عون تحكّم الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله بالجمهورية. عون ترك لنصرالله الاستراتيجيات فيما تفرّغ هو لتعظيم حجمه في “الادارة الذاتية” اللبنانية، ساحباً القوى المتضررة من ذلك الى ملعبه، حيث تلهّى الجميع، بصراع الأحجام المكلِف جداً، عن وجوب التصدّي لإحكام “حزب الله” سيطرته الكارثية، على كل مفاصل الدولة.
في كلمته الافتتاحية في مؤتمر “قمة دول جوار العراق” جدّد مصطفى الكاظمي نطقه ب”العبارة السحرية” التي يمكنها، في حال المثابرة عليها، أن تُنقذ بلاده.
قال:” نرفض استخدام العراق ساحة للصراعات الدولية والاقليمية، أو أن يكون منطلقاً لأيّ تهديد لأيّ جهة”.
نطق بها في حضور الغربيين والعرب عموماً والخليجيين خصوصاً والأتراك والايرانيين الذين فشلوا في فرض حضور حليفهم بشّار الأسد، وهذا هو الأهم.
وهذه العبارة، في الواقع، “اختراع لبناني”. هي تلخيص مفيد ل”إعلان بعبدا”، وهي تفصيل موجز لمبدأ “النأي بالنفس” عن صراعات المحاور وحروبها.
ولكنّ هذا “الاختراع اللبناني” الذي “استعاره” الكاظمي وترجمه ميدانياً، بقدر الامكان، كان قد تولّى “حزب الله” تمزيقه، وعاونه في ذلك، رغبةً أو عنوةً أو غباءً، جميع من تورّطوا في “صراع الأحجام”.
وعلى الرغم من أنّ أكبر كارثة تعصف بلبنان وشعبه، فإنّ معادلة تسليم لبنان كلّياً الى “حزب الله” مستمرة، فيما “أشاوس” السياسة اللبنانية يتصارعون على اسم وزير من هنا، وعلى حقيبة وزارية، من هناك، وعلى الحصص في كل مكان.
إنّ لبنان الذي يهيمن عليه “حزب الله” المنبوذ عربيا ً ودولياً، له مكان أكيد في خارطة “الجبهات” التي يفتحها “الحرس الثوري الإيراني”، ولكن ليس له أيّ مقعد الى طاولة القرار، وتالياً، فهو يحظى بحصص “الجبهات”، ويستحيل أن يتمتّع بمستحقات الدول.
وليس أدل على ذلك، سوى “مازوت حزب الله”، فهذا وقود يبحر على “لسان حربي”، لإعانة “الجبهة الفئوية” على الصمود لإتمام متوجّباتها الميليشياوية، وليس لدعم الدولة تعويماً لها وتمكيناً لمؤسساتها من القيام بواجباتها الدستورية والقانونية.
إنّ خروج لبنان من كارثته يقتضي، بادئ ذي بدء، أن يستعيد نفسه من سيطرة “حزب الله”، وهذا لا يحتاج، حصراً الى مصطفى كاظمي لبناني، ولا الى برهم صالح لبناني، بل الى حراك شعبي لبناني يملك من الوضوح والعزيمة ما تمتّع به الحراك الشعبي العراقي الذي يعود له الفضل في انتاج هذا المسار، ولولاه لكان الكاظمي وبرهم إمّا رفيق الحريري ورينيه معوّض وإمّا نوري المالكي وعادل عبد المهدي.