من شِدّةِ محبّةِ المسؤولين اللبنانيّين شعبَهم، لم يَقبَلوا على أنفسِهم إلا أن يَرفعوا حياتَه إلى مستوى يسوعَ المسيح: جَعلوا شعبَ لبنان يَلجأُ إلى مغارةٍ، يُولدُ في مِذْودٍ، ينامُ على التِّبنِ، يَتدفّأ بـلُهاثِ الغنمِ والبقر، يَستنيرُ بالنجومِ والبرْقِ، يُحاكِمُه أعداؤه، ويَحكُمون عليه بالجَلدِ والصَلْب. لكنَّ المسؤولين عَكسوا المسارَ فجَلدوا الشعبَ وصَلبوه أوّلًا. وإذا يسوعُ اقتبَل هذا القَدَرَ فداءَ البَشر، فمن نَفتدي نحن بعَذاباتِنا؟ الفاسدين، الفاشلين، العُملاءَ، الخَونة، المنهزِمين، المساوِمين، الضالّين، المنحرِفين؟ أنَفتدي يَهوَذا وهِيرَوْدوس وبيلاطُس وقَيافا؟ أنَفتدي من أفْقرونا وجَوَّعونا وأذَلّونا وهَجَّرونا ودَنَّسوا سُمعتَنا وأنْكروا لبنانَ قبلَ صِياحِ الديكِ وأثناءَه وبعدَه؟
لن نَفتديَ أحدًا من هؤلاءِ، ولن نخافَ هِيرَوْدس مهما كانت أسماؤه الجديدةُ. وشعبُنا لن يأخذَ الصبيَّ ويَرحَلَ به إلى مِصرَ خَشيةَ أن يَقتلَه هِيرَوْدس. لسنا رُحَّلًا ولا شعبَ الرحيل، بل شعبُ الثباتِ والصمود. أطفالُنا شَبُّوا مقاوِمين ويُواجهون في سبيلِ لبنانَ الذي سيَنتصِرُ كما انتصرَ المسيح. لا نريدُ أن نَنتصرَ على أحدٍ في الوطنِ، فلسنا نرى في أحدٍ عدوًّا. لكنّنا نريدُ أن ننتصرَ من أجلِ الكرامةِ والإنسان، ولتَبقَ سائدةً كلمةُ يسوع: “أحِبّوا بعضكَم بعضًا كما أنا أحْببتُكم”.
نَبطُلُ، نحن المسيحيّين، أن نكونَ أتباعَ يسوع، إذا حَقَدْنا وكَرِهْنا واسْتعدَينا. ونَبْطُلُ كذلك أن نَكون أتباعَ من قال “لا تخافوا أنا معكم” إذا جَـبُـنّا ولم نُدافع عن وجودِنا وهويّتِنا وحضارتِنا وكِيانِنا. ومشروعُ “لبنان الكبير” هو أصلًا مشروعُ محبّةٍ في عمقِه وبُعدِه وتَعدُّديّتِه وحدودِه لأنّه احْتضَن الجميعَ رغمَ أنَّ الجميعَ لم يَحتَضِنوه. ولـمّا تراءى لهم أنّهم احتَضَنوه خَنقُوه، وأنّهم أحَبّوه خانوه، وأنّهم حكمُوه احْتكروه، وأنّهم والَوه اسْتَولَوا عليه، وأنّهم حَرّروه اخْتَطفوه. عانى لبنانُ من فائضَين: فائضِ الإيمانِ به وفائضِ التشكيكِ به. وقاسى من نَقصين: نقصٍ في حُسنِ الحوكمةِ ونَقصٍ في المواطنيّة. وتَكبَّدَ تُخمتَين: تُخمةَ فشلِ المنظومةِ السياسيّةِ وتُخمةَ فسادٍ متنوِّعٍ وطنيٍّ وأخلاقيٍّ وماليّ. وذاقَ حَرْقتَين: حَرْقةِ الّذين استُشهدوا في سبيلِه وحَرْقةِ الّذين هاجروا بسببِ أزَماتِه.
تأسّس لبنانُ ليَنقُلَنا إلى عهدٍ وطنيٍّ جديدٍ فنكونَ نورًا للشرقِ والعالم. لم يَنشأ لبنانُ ليُلغِيَ الأزمنةَ السابقةَ والقوميّاتِ الغابِرة، بل ليُنقِّيَها ويَجمعَها إلى مائدةٍ واحدةٍ في زمنٍ واحدٍ ومكانٍ واحد. والخصوصيّةُ اللبنانيّةُ ليست بالوجودِ المسيحيِّ فقط، فالمكوّناتُ المسلمةُ اللبنانيّةُ تَتمتّعُ أيضًا بخصوصيّةٍ تُميِّزها عن سائرِ مُسلمي الشرق. وفيما غالِبيّةُ المسيحيّين والمسلمين ارْتضَت هذه الخصوصيّةَ، أَجَفلَ منها آخرون وتَماهَوْا مع مشاريعَ تَرجِعُ إلى ما قبلَ تأسيسِ دولةِ لبنان، بل إلى ما قبلَ المسيحيّةِ والإسلام.
من دونِ التماثلِ مع المسيحِ، قَدَرُ لبنانَ يُشبِهُ أحيانًا قَدَرَ المسيح من ولادتِه إلى قيامتِه. هناك لبنانيّون لم يَفهموا، أو لم يُريدوا أن يَفهموا، معنى وجودِ لبنان، مثلما لم يَفهم اليهودُ، أو لم يُريدوا أن يَفهموا، معنى مجيءِ يسوع. لم يَعترفوا به ولا بمعجِزاتِه وظلّوا قابِعين في العهدِ القديم. اكتَفَوا بالأنبياءِ دونَ الله… لم يَفْقَهوا كيف أنَّ مَن وُلدَ في الـمِذودِ أهمُّ ممن يَعيشُ في القصر، ولا كيف يُصبحُ الخبزُ جَسدَ المسيح، والماءُ دمَه، ولا كيفَ أنَّ يسوعَ ابنَ الإنسانِ هو اللهُ، وأَنَّ الثلاثةَ الأقانيمَ ربٌ واحد.
وفي لبنان مَن لا يَستوعِبُ كيف أنَّ مساحةً جُغرافيّةً دهْريّةً صارت جسدَ وطنٍ تاريخيٍّ، وجماعاتٍ متعدِّدةً صارت دولةً واحدةً، وثماني عشْرَةَ طائفةً أُقنومًا وطنيًّا واحِدًا. هذا التشكيكُ المتمادي بخصوصيّةِ لبنانَ زَلْزلَ وِحدةَ لبنان وتجربتَه وأبرزَ أزْمةَ إيمانٍ هي أمُّ الأزَمات. إذا خَرجنا من الأزَماتِ الاقتصاديّةِ والمعيشيّةِ بعَونِ المجتمعِ الدولي، فلن نخرجَ من أزمةِ الإيمان بلبنان من دون قرارٍ لبنانيٍّ ذاتيٍّ. مفقودٌ هذا القرار، والساري الوحيد لدى الأطرافِ المهيمِنةِ على الدولةِ اللبنانيّةِ هو قرارُ نُكرانِ لبنانَ القائم.
مصدرُ التشكيكِ في لبنانِ هو التَعصُّبُ الأعمى المناقِضُ الإيمانَ بعقيدةٍ أو بِدِين. لا يجوزُ أن يكونَ اللهُ نورًا وأتباعُه عميانَ، ولا أن يكونَ سلامًا وأتباعُه سيوفًا. وبالمقابل، لا يُمكنُ أن يكونَ اللهُ الحقَّ ويَسكُتَ أتباعُه عن الباطل. زمنُ الميلادِ أفضلُ لحظةٍ للتأمّلِ في هذه المعادلاتِ لاستعادةِ الإيمان الحقيقيّ بوجودنِا، خصوصًا أنَّ هناك جدليّةً بين تكوينِ لبنان وتكوينِ الأديان في هذا الشرق. ومهما بلَغنا في سَعينا إلى العلمنة، ستبقى الأديانُ قَدَرَنا في لبنان والشرق. غير أن هذا القَدَرَ صار عِبْئًا مُتعِبًا. جماعاتٌ ناشطةٌ من أهلِ الأديانِ أتْعَبت أنفسَها وأتعَبت الأديان وحَرَفَتها. صحيحٌ أنَّ الله أرادنا أحرارًا لكنّه لم يُرِدنْا أشرارًا نَستغِلُّ الحرّيةَ ضِدَّ مفهومِ الخير. والله أعطانا حرّيةَ التصرّفِ بتَصَوُّرِه وتَخيُّلِه، وجَوازَ محاكاتِه ببساطةٍ شرطَ ألَّا نُشوِّهَ صورتَه الحقيقيّة.
أرسُم، كما أشاءُ، صورةَ يسوعَ الابنِ وصورةَ الآبِ وصورةَ الروحِ القدس. الله يَدَعُني أُخَربِشُ. أرسُمه أبيضَ أو أسودَ أو أصفرَ، مبتَسِمًا أو مُقطَّبَ الجبين، نسيمًا أو زمهريرًا. أرسُمه شكلًا إنسانيًّا أو حالةً تجريدية، ذاهبًا أو مُقبِلًا. أُحبُّه خالقًا لا مخلوقًا، حاضنًا لا ديّانًا. غافِرًا لا مُنتقِمًا. زائرًا لا مقتَحِمًا. كلّما تأمّلتُ في الله زُغْتُ في شكلِه وتأكّدتُ من وجودِه. وجودُ اللهِ نقيضُ الفلسفةِ ومثيلُ البراءة. لم يَتوصّل أيُّ فيلسوفٍ إلى فَهمِ الله أكثرَ من الأطفال. هل من أطفالٍ بعدُ في لبنان؟ ليس اللهُ في حاجةٍ إلى تثبيتِ وجودِه وإبرازِ هُويّتِه. والفلسفةُ الماديّةُ التي أنْهكَت جَدليّتَها لتَنفيَ وجودَ الله خَرجت مهزومة. لا بل أتى النفيُ تأكيدَ حضورٍ. ومن هو حاضرٌ، إذًا هو موجود.
أنظرُ إلى لبنانَ جُزءًا من إيماني بالله، وأنظرُ إلى الله مُعينًا للحفاظِ على لبنان. وهذه السنةَ، أكثرُ من أيٍّ سنةٍ مَضت، تَبدو ولادةُ يسوع هِبةً إلى لبنان لا تُرَدُّ ولا تُسْتَردّ. يسوعُ هو الزائرُ الوحيدُ المنتظَر، والزائرُ الذي يُغنينا عن سائرِ الزائرين السائحين. عَسانا نَنزِل عن الصليبِ وقد تَعِبَ منّا.
*****