يَشعرُ اللبنانيّون أنَّ لبنانَ هو المحافظةُ الاحتياط في كلِّ دولةٍ من دولِ العالم. ما إِن تَندلعُ حربٌ، ولو في المرّيخ، حتى يهرَعَ اللبنانيّون ـــ قبل أهلِ البلدِ حيث تدورُ الحربُ ـــ إلى التساؤلِ عن انعكاساتِها عليهم. مُخزٍ أن يَربُطَ اللبنانيّون دائمًا مصيرَ بلدِهم بكلِّ أزْمةٍ أو حربٍ خارجيّة. هذه مُصيبةُ كلِّ دولةٍ يتولّى أحكامَها تَبعِـيّون ومحترفو هِوايات. وهذه بَليّةُ كلِّ وطنٍ يَتحوّلُ عددٌ من مكوّناتِه مستعمراتٍ لدولٍ أُخرى. وهذه مأساةُ كلِّ شعبٍ منقسِمٍ على ذاتِه وعاجزٍ، بالتالي، عن حمايةِ سيادتِه واستقلالِه. وحزبُ الله الذي يوهِـمُنا بأنَّ سلاحَه يَحمي لبنان، هو سببُ بقاءِ لبنان في عينِ العواصف، وهو عِلّةُ زيادةِ ارتباطِ مصيرِ لبنان بأحداثِ الشرقِ الأوسطِ والعالم. لا نُنكِرُ أنَّ القوّةَ هي ركيزةُ أيِّ استراتيجيّةٍ دفاعيّة، إِنما شرطَ أن تكونَ قوّةً شرعيّةً لأنَّ القوّةَ غيرَ الشرعيّةِ هي مصدرُ ضعفٍ ونذيرُ عدوان وتَفتقِدُ الشرعيّةَ الدوليّة.
الأزمةُ المعيشيّةُ دَفعت اللبنانيّين إلى التخوّفِ من انعكاساتِ حربِ أوكرانيا على الأمنِ الغذائي، لكنّهم لم يُعِيروا اهتمامًا كافيًّا لانعكاسِها على الأمنِ القوميِّ اللبنانيّ. فروسيا التي زَعمَت أنَّ استعادةَ أوكرانيا هي “تصحيحُ خطأٍ تاريخيِّ”، يُمكن أن تُشجِّعَ إسرائيلَ أو سوريا أو إيران أو تركيا على إحياءِ أحلامِها، بل أوهامِها، بقضمِ أجزاءَ من لبنان. لذلك، إذا رَضخ العالمُ لمشروعِ فلاديمير بوتين وسلّمَ باجتياحِ أوكرانيا وبقضمِ مقاطعتَي “لوغانسك” و”دونيتسك” وشبهِ جزيرةِ القرم منها، سيُشكِّلُ الأمرُ سابقةً تَستندُ إليها دولٌ عدةٌ لـــ”تصحيحِ” ما تعتبرُه زورًا أخطاءَ تاريخيةً مع جيرانها. وحين تَتكرّرُ عملياتُ التصحيحِ المزعومةُ تُصبحُ “اجتهادًا دُوليًّا” يُطيح القوانينَ الدوليّةَ، أي الحدودَ الدوليّةَ والكياناتِ الوطنيّة.
تقديرُ أخطارِ الحربِ الروسيّةِ/الأوكرانيّة على لبنانَ والشرقِ الأوسط يَرتبط بمعرفةِ أربعةِ معطياتٍ لا تزال مُبهمةً: 1) المدى الزمنيُّ الذي ستَستغرِقُه هذه الحربُ في أوكرانيا. 2) المدى الجغرافيُّ الذي ستَبلُغه في أوروبا إذا طالَت وارتدّت العقوباتُ على الشعوبِ الأوروبيّةِ أيضًا. 3) المدى العالميُّ الذي ستَطالُه في حالِ أقدَمت دولٌ خارجَ النطاقِ الأوروبيِّ على استغلالِ الحربِ الأوكرانيّةِ لحسمِ نزاعاتِها الإقليميّة. 4) المدى العسكريُّ الذي يُشكّلُه قيامُ محورٍ روسيٍّ/صينيٍّ بمواجهةِ محورٍ أميركيٍّ/أوروبيِّ، فيتَّخِذُ الأوّلُ من إيران، والآخَر من إسرائيل واجهةً شرقَ أوسطيّة.
بانتظارِ وضوحِ هذه المعطيات، تأثيراتُ الحربِ في أوكرانيا على لبنان في المدى المنظور تَشمُلُ إلى الأمنِ الغذائيِّ وشحِّ الطاقةِ والمحروقات وارتفاعَ الأسعار: برنامجَ صندوقِ النقدِ الدُوليِّ، مساعداتِ الدولِ المانحةِ، مخصّصاتِ الأممِ المتّحدةِ للنازحين السوريّين في لبنان، الاستحقاقاتِ الدستوريّةَ (النيابيّةَ والرئاسيّة)، القراراتِ الدوليّةَ، ترسيمَ الحدودِ مع إسرائيل بما فيها البريّةُ، مصيرَ حزبِ الله في ضوءِ تطوّرِ الحالتين الإيرانيّة والسوريّةِ في المنطقة، وشكلَ الدولةِ اللبنانيّةِ الجديد. وإذا كانت هذه التأثيراتُ تتوقّفُ على مصيرِ العناصرِ الأربعةِ أعلاه، فحدودُها ـــ الإيجابيّةُ والسلبيّةُ ـــ تبقى رهنَ موقفِ لبنان والمبادراتِ الاستباقيّةِ التي يُفترضُ أن تتّخِذَها مرجِعيّاتٌ لبنانيّةٌ في الأسبوعين المقبِلين.
التجاربُ التاريخيّةُ تدّلُ على أنَّ غالِبيّةَ الحروب، المباشَرةِ أو غيرِ المباشَرة، بين دولٍ كبرى شَكّلت تغطيةً مثاليّةً لتغييرِ موازينِ القِوى في أكثرَ من مِنطقةٍ بعيدةٍ عن أرضِ الحربِ الأساسيّةِ. أصلًا، وقُبيل اندلاعِ الحربِ الأوكرانيّة، كانت ستُّ دولٍ تسعى إلى تعديلِ النظامِ العالميِّ دوليًّا أو إقليميًّا: فعدا أميركا وروسيا والصين عالميًّا، تتحرّكُ حولنَا دولٌ إقليميّةٌ لتعديلِ الخريطةِ الإقليميّة: إيران تجاهَ إسرائيل والعالمِ العربيِّ السُنّي والأقليّات. تركيا تجاه محيطِها المشرقيِّ وآسيا الصغرى. وإسرائيل تجاه فلسطين وإيران بما تُمثّلُ من مشروعٍ نوويٍّ وتَمدُّدٍ في دولِ الشرقِ الأوسط (لبنان ضِمنًا). وليست مصادفةً أن تكون تركيا وإسرائيل، الحاضرتان في سوريا، أكثرَ دولتَين تحرّكتا ـــ لأسبابٍ مختلِفةٍ ـــ تجاه روسيا، فيما بَدت إيران مُحرَجَةً وقلِقة.
لكن ما يُقلق أصدقاءَ الولاياتِ المتّحدةِ: أن تُقْدِمَ، في إطارِ العملِ على عزلِ روسيا عن آخِر حلفائِها، على مسايرةِ دولٍ مثلِ إيران وفنزويلا على حسابهم. وهذا يُفسِّرُ تحفّظَ دولِ الخليج حيالَ حربِ أوكرانيا وعدمَ اصطفافِها الكامل وراءَ واشنطن، و”رفضَ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد التحدّثَ إلى بايدن” (وول ستريت جورنال 08 شباط). هذا الأمرُ يَضعُ لبنان أيضًا في دائرةِ الأخطار. فهنا يَعبَثُ الصراعُ الأميركيُّ/الروسيُّ، والإيرانيُّ/الخليجيّ، والإسرائيليُّ/الإيراني إضافةً إلى الأزَماتِ الجارية.
منذ اندلاعِ الحربِ الأوكرانيّة تَعزّز الصراعُ بين إسرائيل وإيران حول لبنانَ وسوريا. إسرائيلُ تَحركّت لربطِ مصيرِ الاتّفاق النوويِّ في مؤتمرِ فيينا بمصيرِ حربِ أوكرانيا بُغيةَ تعطيلِه، وإيران سارعَت إلى فصلِ التوقيعِ على الاتّفاقِ النوويِّ عن تطوّراتِ الحربِ هناك علّها تَنجو بنفسِها من ارتداداتِ حربٍ لا تَعرفُ انعكاسَها عليها بعدُ. تعتقد إيران أن أميركا تَستعجِلُ الاتّفاقَ قبل استفحالِ الحربِ واضطرارِها إلى التورّط فيها. وتراهنُ إسرائيلُ على أن ما يجري في أوكرانيا من شأنه أن يُطلِقَ يدَها في ردعِ إيران وأدواتِها في لبنانَ وسوريا، وحتّى في قلبِ إيران. في الأيّامِ الأولى من هذا الأسبوعِ أَطلق رئيسُ وزراءِ إسرائيل ووزيرُ دفاعِها نحو عشرةِ تصاريحَ تحذيريّةٍ إلى كلٍّ من إيران وحزب الله.
ليس ترفًا أن يذهبَ رئيسُ وزراء إسرائيل إلى موسكو ويفُكَّ العُزلةَ الدُوليّةَ عن بوتين، ويَتحفّظَ عن إدانةِ الهجومِ الروسيِّ على أوكرانيا، ويَمتنعَ عن التصويتِ على قرارِ مجلسِ الأمنِ الدُوليّ ضد روسيا رغم إلحاحِ واشنطن (28 شباط) قبل أن يصوِّتَ على القرارِ الآخَر في الجمعيّةِ العموميّة (02 آذار). إسرائيل، المطْمئنّةُ إلى حلفِها مع الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة، تجاملُ روسيا لتُحافظَ على تفاهمِها معها وتَضمَنَ حريّةَ عمليّاتِها العسكريّةِ في سوريا ضِدّ إيران وحزبِ الله. واللافتُ أنَّ إسرائيلَ تَقصَّدَت ضربَ إيران مرّتين في سوريا بُعَيدَ عودةِ رئيسِ وزرائِها من روسيا.
حيالَ هذه التطوّراتِ الدُوليّةِ والإقليميّةِ الغامضةِ والخطيرة، يواجِه اللبنانيّون مصيرَهم في ظلِّ دولةٍ عاجزةٍ ومتواطئةٍ، وقياداتٍ سياسيّةٍ أنانيّةٍ ومنهَمكةٍ باستطلاعاتِ الرأيِ حولَ الانتخاباتِ النيابيّة المجهولةِ المصيرِ أيضًا، وحراكٍ شعبيٍّ أسلمَ الروحَ وهو بَعدُ في الحاضِنة. لكن الـمَسَّ بالاستحقاقَين الدستوريَّين (النيابيِّ والرئاسيِّ) سيكون انعكاسُهُ هذه المرّة مختلِفًا عن المرّاتِ السابقة. سابقًا انتظرنا لننتخِبَ رئيسًا للجمهوريّة، أما هذه المرّة فقد يذهبُ اللبنانيّون إلى اختيارِ جُمهوريّةٍ جديدةٍ. البعضُ يريدُها عبرَ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ والبعضُ الآخُر عبرَ مؤتمرٍ دُوليّ.