Khazen

 

دعوا النوّابَ يَعُدّون أسماءَهم ويُوزِّعونَها على كُتلٍ حقيقيّةٍ ومجازيّة، دَعوهم يَفرَحون برفعِ السواترِ من محيطِ مجلسِ النوّاب على أمل رفعِ الستائرِ عن مواقفِهم. دَعوهم وتعالوا نَبحَثْ عن مصيرِ لبنانَ المتَمايِلِ بين مشروعَي الأكثريّةِ والأقليّاتِ في الشرقِ الأوسطِ وليس بين الأكثريّةِ والأقليّةِ في المجلسِ النيابيّ. نحن اللبنانيّين مجموعةُ أقليّاتٍ فَشِلنا في أن نُكوِّنَ أكثريّةً جامعةً ونَكُونَ شعبًا موحَّدًا. مَكَثنا في زمنِ المدائن والكنائس والمآذِن. وحين لامَسَت التجربةُ اللبنانيّةُ النجاح، انتَصَبت المطالبُ الطائفيّةُ عِوضَ الإعجابِ بمن نَجحوا وهُم من جميعِ الطوائف. لم تَبقَ تُهمةٌ لم تُلصَقْ بتلك الدولةِ النُخبويّةِ التي صَنعَت مجدَ لبنان وحَمَت شعبَه وحدودَه من دونِ طلقةِ نار. كان زمنُ: “قُلْ كلمةً واحدةً فتَحيا بها نفسي”…

كان الذَكاءُ صواريخَنا العابِرة، والحِيادُ مُسيّراتِنا، والنظامُ المصرِفيُّ شبكةَ أمانِنا، والاقتصادُ المتنوِّعُ كَفافَ أجيالِنا، والديبلوماسيّةُ أوراقَ اعتمادِنا، والميثاقُ استراتيجيّتَنا الدفاعيّة، والازدهارُ سلاحَنا المدَمِّر… يومَها كانت قوّةُ لبنان في مناعتِه لا في ضُعفِه. يومَها كان العالمُ العربيُّ والدُوليُّ يَعتبر لبنانَ حاجةً فيما اعتبرَه بعضُ بَنيه عالةً. يومَها كان العالمُ العربيُّ يدفُقُ الأموالَ والاستثماراتِ، والغربُ يَتدخّلُ حتى عسكريًّا للحفاظِ على لبنان. يومَها كنّا أُمّيين في تَـهْجئَةِ حروفِ اللامركزيّةِ والفِدراليّةِ والكونفدراليّة، ولم يَخطُر بِبالِنا أنَ نَفتحَ القاموسَ لنعرِفَ معاني هذه الكلمات. لم يكن ذلك حُلمًا ولا حنينًا سورياليًّا. كنا سعداءَ حتّى في خِلافاتِنا لأنّنا كنّا قادرين على احتوائِها إلى أن أتَت ساعةُ تسليمِ لبنان إلى جلّاديه. آهٍ كَم كانت أعدادُ “يَهوذا”، وكم كانت أعدادُ “بيلاطُس”…

كان القَنّاصُ “عَ المفْرق ناطِرْنا”. نيرانٌ شريكةٌ ثم شقيقةٌ ثم عدوّةٌ أصابَت لبنان؛ لكنَّ اللبنانيّين ظلّوا واقفِين وصامدين نِصفَ قرنٍ ونيِّفًا. ضَمّدوا جراحاتِهم وتَصالحوا على أساسِ ميزانِ قوى جديدٍ فتَشوَّهَت المصالحةُ وراحَ ميزانُ القِوى يَنتَقلُ من فريقٍ إلى آخَر. حاولوا تناسِي الخطايا المتبادَلةِ والشهداءِ أحيانًا والانطلاقِ من جديد. أَعطَوْا فرصةً أخرى للشَراكةِ المركزيّةِ ولوِحدةِ الكيان. لكنْ، كلمّا كان يَهتدي مُكوِّنٌ لبنانيٌّ كان يَضِلُّ مكوِّنٌ آخَر. مُشْتهى الولاءِ إلى المحيطِ القريبِ والأبعدِ كان أقوى من روحِ المصالحةِ ومَنطقِ العقلِ ونَجوى الوِجدان.

والخطورةُ أنَّ الولاءَ المتجَدِّدَ للخارج لم يَقِف، هذه المرّةَ، عند حدودِ الهَوى القوميِّ، بل تَـمدَّد حتّى التبعيّةِ المطلَقةِ وتَبنّي مشاريعَ دينيّةٍ وسياسيّةٍ وعسكريّةٍ واجتماعيّةٍ وعقائديّةٍ ضدَّ المشروعِ اللبنانيّ. والخطورةُ الأخرى أنَّ أحدَ هذه المشاريعِ الأجنبيّةِ صار دولةً مستقِلّةً على أرضِ لبنان وتُسيطرُ على دولةِ لبنانَ الشرعيّة. لكنَّ الـمُصيبةَ الكبرى أنَّ غالِبيّةَ القوى السياسيّةِ، لاسيّما حَديثو النيابةِ ودعاةُ التغييرِ الضبابيِّ، يُقاربون الأزْمةَ اللبنانيّةَ الراهنةَ بمنأى عن القضيّةِ اللبنانيّةِ التاريخيّة، ويَعتقدون أنَّ مِنَ الأرقامِ يَخرُجُ الحلُّ المعجِزة. غابت عن إطلالاتِهم الإعلاميّةِ المواقفُ الوطنيّةُ المصيريّةُ، واكتفوا بالسياسةِ اليوميّةِ والاقتصاد، وارتَضَوا المساكنةَ مع سلاحِ حزبِ الله.

مهما كانت هُويّةُ الأكثريّةِ الجديدةِ ونوعيّةُ الحكومةِ العتيدة، دولةُ لبنان الموحَّدةُ أصبحَت غيرَ قابلةٍ للحكمِ إذ لا أحدَ يستطيعُ أنْ يَحكُمَ دولةً مجازيّةً بعِدّةِ رؤوسٍ وعدّةِ مجتمعاتٍ وعدّةِ وَلاءاتٍ وعِدّةِ جيوشٍ وعدّةِ عُمُلاتٍ وعدّةِ أحقاد. يَتهيأ لي أحيانًا أنَّ بعضَ اللبنانيّين يَعيشون معًا حَياءً من خِيارٍ آخَرَ عِوضَ أن يختاروا العيشَ معًا حياءً من التاريخ. نَعتمدُ نظامًا ديمقراطيًّا ولا نَحترمُه، نَخوضُ انتخاباتٍ نيابيّةً ولا نَلتزمُ بنتائجِها، نُشكّلُ حكومةً ولا نُسهِّلُ أعمالَها، نَضعُ دستورًا ولا نُطبِّقُه، نَتغنّى بالسيادةِ ولا نَضبُطُ حدودَنا، نكتشفُ ثرَواتٍ نَفطيةً ولا نَستخرِجُها، نوافقُ على قراراتٍ دُوليّةٍ ولا نُنفِّذُها، نُحرِّرُ الأرضَ ونَحتّلُ الدولة، ندعو إلى التوافقِ ولا نَتحاور. إمّا أنْ يَتغيّــرَ هذا الواقعُ التقسيميُّ ويبقى لبنانُ موحَّدًا، وإمّا أن يَتوطّدَ ويَتغيّــرَ لبنان. وإذا كان يوجدُ إجماعٌ على هذا الواقعِ التقسيميِّ، فالخلافُ على الحلِّ يزدادُ ويتراوحُ بين اللامركزيّةِ الموسَّعةِ والفِدراليّة.

من هنا لا ندري ما إذا كانت البلادُ عشيّةَ تشكيلِ حكومةٍ وانتخابِ رئيسِ جمهوريّةٍ أم عشيّةَ انعقادِ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ أو مؤتمرٍ دُوَليّ أو انفجار؟ استنادًا إلى مشروعِ حزبِ الله سيؤدّي المؤتمرُ التأسيسيُّ إلى نقضِ ما هو قائمٌ وتشريعِ سلاحِ حزبِ الله، بينما المؤتمرُ الدُوليُّ يُبقي الإصلاحاتِ الدستوريّةَ ضِمنَ الشرعيّتين اللبنانيّةِ والدُوليّةِ، يُثبِّتُ حِيادَ لبنان، ويُعطي ـــ ربّما ـــ قوّةً تنفيذيّةً لتطبيقِ القراراتِ الدُوليّةِ التي يُشكِّل الالتزامُ بها حياةً جديدةً لاستقلالِ لبنان واستقرارِه وسيادتِه.

رغمَ انشغالات العالم بحربِ أوكرانيا وتبعاتِها، تظلُّ الأممُ المتّحدةُ قادرةً أن تَحُثَّ دولَ مجلسِ الأمنِ الدَوليِّ على استدراكِ الوضعِ اللبنانيِّ قبلَ انتقالِ لبنان من الانهيارِ إلى الارتطامِ. مشكلةُ الدولِ الغربيّةِ الصديقةِ (مبدئيًّا) أنّها تَتدخّلُ دائمًا بعدَ العاصفة. تأتي عمومًا كقوّاتِ سلامٍ لا كقوّاتِ حَسْم. والسلامُ الذي تجيءُ لتحميَه لا يكون دائمًا سلامًا عادلًا وحقيقيًّا، بل تسويةً زائفةً ومُوَقّتة. حان الوقتُ لأنْ تُدركَ هذه الدولُ أنَّ السلامَ في لبنان يحتِّمُ معالجةَ الأوضاعِ الشاذّةِ التي تمنعُ قيامَ دولةٍ طبيعية. لكنْ، أيُّ مرجِعيّةٍ لبنانيّةٍ تُبادِرُ وتخاطبُ العالمَ وتَدعوه إلى إنقاذِ لبنان. أين “زيلينسكي” لبنان؟

في جميعِ الأحوالِ، نحن في طورٍ جديدٍ من حياةِ لبنان. بعضُنا يريد إجراءَ حَصْرِ إرْثٍ دستوريٍّ، وبعضُنا الآخَرُ يريد استعادةَ الإرثِ والتُراثِ ليُنقذَ هُويّةَ لبنانَ والكيان. ولأنَّ مثلَ هذه المعاملات تُنجَزُ أحيانًا بصعوبةٍ، يُفترضُ بممثّلي المكوِّناتِ اللبنانيّةِ أن يَتحلّوا بالحكمةِ الوطنيّةِ ليَبقى الحلُّ في إطارِ السياسةِ والإصلاحِ والدستور، ولا يَطالُ الجغرافيا. ليس لبنانُ وِحدةً عَقاريّةً نتلاعبُ بها، بل هو وِحدةُ وطنٍ وأمّة.

لبنانُ هنا قبلَ الّذين لاذوا إليه أكانوا مسيحيّين أم مسلِمين. لم يبدأ تاريخُ لبنان سنةَ أُولى مع المسيح، ولا سنةَ 410 مع مار مارون، ولا سنةَ 622 مع الإسلام، ولا سنةَ 1920 مع لبنان الكبير. لم يَبدأْ تاريخُ لبنان مع الفتوحات، بل مع الأبجديّة. ولم يبدأ مع الأكثريّاتِ والأقلّياتِ الطائفيّة، بل مع مفهومِ حريّةِ الإنسان. وبالتالي، لم يُعطَ أحدٌ حقَّ اختصارِ تاريخِ لبنان ومَداه الجغرافيِّ بحقبةٍ أو جَماعة. نَبعُ الحضارةِ اللبنانيّةِ أعرقُ منّا جميعًا، يعود إلى زمنِ المدائن…

*****