Khazen

 

@AzziSejean

 

الجميلُ أن تجدَ الأزماتُ حلولًا. السيِّئُ ألّا تجدَ الأزماتُ حلولًا. الأسوأ أن تَجدَ الأزماتُ حلولًا ولا تُطَــبّقُ. والكارثةُ أن تُغتالَ عَمدًا جميعُ الحلولِ ما إِن تلوحُ في الأفْقِ. لبنان اجتاز الحالاتِ الثلاثَ الأولى واستقرَّ للأسفِ في الحالةِ الرابعةِ. أصبح اللبنانيّون مُنتِجي أزَماتٍ وقنّاصِي حلول. تَعايشَ اللبنانيّون مع الأزَماتِ ووَجدوا لها الحلولَ أو التسوياتِ حين كانت فئاتٌ لبنانيّةٌ تسعى إلى تحسينِ مواقعِها في الدولة. أما حين قرّرت فئاتٌ لبنانيّةٌ أخرى تغييرَ موقِعِ لبنان وهُويّتِه واستملاكَه وبناءَه على صورةِ الأنظمةِ الدينيّةِ والاستبداديّة، أصبَحنا نَتعايش مع الأزَماتِ من دونِ الحلول. إنَّ المشاريعَ الدينيّةَ الأجنبيّةَ التي تَحمِلُها قِوى سياسيّةٌ لبنانيّةٌ، لا تتآلفُ مع الدستورِ اللبنانيِّ نصًّا وروحًا، ولا مع الميثاقِ الوطنيِّ فلسفةً وعُرفًا، لأنَّ مشاريعَها تَستدعي فِقهًا وفتاوى وتكاليفَ شرعيّةً لا دساتيرَ ومواثيق.

الإشكاليّةُ التي نُعاني منها في لبنان هي استحالةُ تطبيقِ حلٍّ سِلميٍّ أو حلٍّ عسكريّ كأنَّما لا بدّ من الجُرعتَين. ما عاد البَحثُ عن حلِّ أزْمةِ لبنان، بل عن حلِّ أزمةِ لبنان مع دولةِ حزبِ الله المنتشِرةِ على أراضيه وفي مجتمعِه ومؤسّساتِه وفي مجلسَي النواب والوزراء وتَمتلِكُ جيشًا بموازاةِ الجيشِ اللبناني. استحالةُ الحلِّ السياسيِّ ناتجةٌ عن قرارِ حزبِ الله بالإبقاءِ على جيشِه أيًّا يَكن الحلُّ السياسيّ، ما يؤدي إلى نشوءِ شعبَين: أحدُهما مسلَّحٌ مع مشروعٍ توسعيٍّ، والآخَرُ بدونِ سلاحٍ في كَنفِ الدولةِ اللبنانيّة. واستحالةُ الحلِّ العسكريِّ ناجمةٌ عن تحوّلِ أيِّ مواجَهةٍ عسكريّةٍ إلى حربٍ أهليّةٍ تُقسِّمُ البلدَ أو تُفتِّتهُ. ويُخشى أن تَقتصِرَ الحربُ على حزبِ الله والقِوى المسيحيّةِ السياديّة، فيما يَكتفي الآخَرون بِعدِّ الضحايا وإسداءِ النصائح. في الحالتين يبقى سؤالان أساسيّان: ما هو دورُ الجيشِ اللبنانيِّ تجاه استحالةِ الحلِّ السياسيِّ؟ وما هو دورُه في وقفِ المواجهةِ العسكرية؟

بين الأسباب التي تُعقِّدُ حلَّ القضيّةِ اللبنانيّةِ سَببان: 1) عدمُ ثقةِ الأطرافِ اللبنانيّة بمعادلةِ الحلِّ السياسيِّ ونتائِجه، إذ هناك أطرافٌ تَميل إلى حلٍّ يكون فيه غالِبٌ ومغلوبٌ بحكمِ وجودِ عنصرِ السلاحِ على طاولةِ المفاوضات السلمية. 2) اتّجاهُ أطرافٍ لبنانيّةٍ إلى ربطِ الحلِّ الداخليِّ بالتطوّراتِ الإقليميّةِ والدُولية، إذ يَظنُّ كلُّ طرفٍ لبنانيٍّ أنَّ “حليفَه” الخارجيَّ سيربَحُ إقليميًّا ودُوليًّا، وبالتالي سيربَحُ هو معه في لبنان. هكذا حَصَل سنواتِ 1920 و1943 و1982 و1989، إلخ… لكنَّ الثمارَ الإيجابيّةَ الـمُوَقّتةَ التي أعْطتها هذه الرهاناتُ سُرعان ما يَبِسَت وكانت وِزْرًا على أصحابِـها وأخصامِها معًا.

كلُّ ما يجري اليوم تحت مُسمّى حلولٍ من نوعِ: الاتفاقِ مع صندوق النقد الدولي، وترسيمِ حدودِ الطاقةِ بين إسرائيل ولبنان، وترميمِ الحكومةِ القائمة، لا يَرقى إلى مستوى الحلِّ لإن الحلَّ الحقيقيَّ للقضيّةِ اللبنانيّةِ هو في مكانٍ آخَر. كيف تكون هذه الإجراءاتُ حلًّا ولا تؤدّي إلى انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة؟ إنّها إجراءاتٌ مرحليّةٌ يُوليها المجتمعُ الدُوَليُّ اهتمامًا نسبيًّا ريثما تَنضُج حلولُ دولِ الشرقِ الأوسط وتسوياتُها، ويَــتَّسِعُ له الوقتُ ليُشرفَ فعليًّا وجِدّيًا على حسمِ الوضعِ اللبنانيّ. لن يَستقرَّ لبنانُ مِن دون سيادةٍ واستقلالٍ ومفهومٍ جديدٍ للعَلاقةِ السياسيّةِ والدستوريّةِ والحضاريّةِ بين مكوّناتِ الوطن. مِن دونِ إرساءِ نظامٍ لامركزيٍّ فعليٍّ مَبنيٍّ على التجانسِ الحضاريِّ ومُدعَّمٍ بالحيادِ الناشط. مِن دون وضعِ حدٍّ لسلاحِ حزبِ الله ولكلِّ سلاحٍ غيرِ شرعيٍّ أكان لبنانيًّا أم غيرَ لبنانيِّ. مِن دون إعادةِ النازحين السوريّين إلى بلادِهم وإعادةِ انتشارِ اللاجئين الفِلسطينيّين خارجَ لبنان. ومن دونِ انضمامِ لبنان إلى حركةِ السلامِ في الشرقِ الأوسط والاعترافِ بنهائيّةِ الخصوصيّةِ اللبنانيّة.

منذ مدّةٍ، أمسى حزبُ الله معضلةً لذاتِه مثلما هو مشكلةٌ للآخَرين. مشروعُه أكبرُ من مَذهبِه وأصغرُ من لبنان. نعم أصغرُ من لبنان. ومشروعُه هو حربٌ دائمةٌ ومَصدرُ نِزاعٍ مع طائفته والمسيحيّين، مع السُنّةِ والدروز، مع إسرائيل والعربِ والغربِ. وحبّذا لو يَستنتِجُ حزبُ الله، وبالتالي إيران، درسًا من الحربِ الدائرةِ بين روسيا وأوكرانيا، فيُدرِكان أنَّ قوّةَ روسيا لم تكن كافيةً لتَهزِمَ أوكرانيا.

صحيحٌ أنَّ مسيرةَ الأممِ مليئةٌ بالصراعاتِ التي لم يَنعَم عليها التاريخُ بحلولٍ، لكنَّ الأصحَّ هو أنَّ شعوبًا نَـمَت على غريزةِ الصراعِ واعْتبرَتها مادّةَ نضالٍ ومُبرِّرَ وجود، وظَــنّت السلامَ غريمَ الاستقرارِ. خلافًا لاعتقادٍ تاريخيٍّ سائد، توجدُ حلولٌ لكلٍّ أزْمة، وهذه الحلولُ قادرةٌ أن تَمنعَ الخِلافاتِ من بلوغِ الحروب. يَكفي أن يَحتكمَ الحكّامُ إلى القوانينِ المحليّةِ والدُوليّةِ والقواعدِ الأخلاقيّةِ، وأن يَلتجِئوا إلى الآليّاتِ السياسيّةِ والديبلوماسيّةِ لكي تَعيشَ الإنسانيّةُ في سلامٍ مُستدام. لكنْ حين تَرفض الدولُ حلولًا مبنيّةً على القوانينِ والسياسة، أي على العدلِ، وتُفضِّلُ شريعةَ الغاب، تَنشأُ الأزَماتُ وتتحوّلُ حروبًا وتُدرَجُ في لائحةِ الأزَماتِ المستدامة.

تحتاجُ الشعوبُ، بل الحكّامُ، إلى شجاعةٍ فائقةٍ وتفاني الرسلِ لانتزاعِ الأفكارِ المسبَقةِ واقتلاعِ العقائدِ المتحَجِّرة. في الحقيقةِ ليس المطلوبُ التنازلَ عن حقٍّ نَملِكُه أو عن صَحٍّ نؤمنُ به، بل الرجوعُ عن غرائزَ زُرِعَت فينا خِلْسة. إنه تمرين صعبٌ لأنه يتنافسُ مع كِبريائِنا وأنانيّتِنا، ويَظنّهُ البعضُ هزيمةً مُسبَقة. وما يُعقِّدُ العودةَ عن الأفكارِ المسبَقةِ حين تكونُ مرجِعيّتُها حركاتٍ دينيّةً مسيحيّةً أو إسلاميّة. لسنا هنا في واردِ إلغاء الله أو الأديان، بل في رفضِ اختراعِ آلهةٍ مزوَّرةٍ وأديانٍ رديفةٍ للأديانِ الأصيلة.

تَعسُّرُ الحلولِ السياسيّةِ والعسكريّة في لبنان أعطى القِوى المتصارِعةَ حريّةَ العبَثِ بمصيرِ لبنان لاطْمِئنانِها إلى غيابِ أيِّ رادعٍ محليٍّ أو دُوليٍّ. فكان الفلتانُ، والسلاحُ غيرُ الشرعيُّ، والحدودُ السائبةُ، وتعطيلُ المؤسّساتِ، وتجميدُ الدستور، وشغورُ الشرعيّةِ، وانهيارُ النقدِ الوطنيّ، وسقوطُ الدولة. هذا الواقع يُلغي جميعَ الحلولِ باستثناءِ واحد: إعادةُ النظر بهيكليّةِ الدولةِ المركزيّة، وهذا هو المدخَلُ العمليُّ إلى العلمنةِ أيضًا فيَعيشُ معًا كلُّ الّذين يَتقاسَمون نَمطَ حياةٍ متشابِهًا أيًّا يكن دينُهم وطائفتُهم ومذهبُهم، فيَحيا لبنانُ الأصيل.

*****