الأسبابُ الموجِبة لبيان المطارنة
– Sejean Azzi, جريدة "النهار" في 11 تموز 2007
مَن لم يُسلِّم بأن "مجدَ لبنان أعطي له" ومَن يَسْعَ لنقلِه إلى مكانٍ آخرَ حديثٍ أو مُستَحدَث، فليُسَلِّم، على الأقل، بأن نقدَ بكركي الحكمَ حقٌّ باقٍ لها…والأقربون إلى بكركي، وهم تيّارُ السيادةِ والاستقلال، أَوْلى بالنقدِ حين يُخطِئون أو يَغضُّون الطرْفَ (لعلَّ وعسى).
لكنَّ نقدَ الأقربين لا يُخفِّفُ من أخطاءِ غيرِهم ولا يُعفيهم من مسؤوليةِ تعليقِ "مبادئِ المنفى" وتغطيةِ أسلمةِ لبنان من نافذةٍ أخرى. نعم، هناك مشاريعٌ لا مشروعٌ واحدٌ لأسلمةِ لبنان، وقد بدأت منذ اليومِ الأوّل لتطبيقِ اتفاقِ الطائف بإشرافِ الاحتلالِ السوري والحكمِ اللبناني والحكوماتِ والمجالسِ النيابيةِ المتعاقِبة.
وإذا كانت الوقايةُ خيرَ عِلاجٍ، فالتحذيرُ أفضلُ وقايةٍ من الأعظم الذي يَخشاه البطريركُ الماروني. والمفارَقةُ أنَّ مَرجِعاً دينياً (مجلس المطارنة الموارنة) يدعو إلى دولةٍ مدنيةٍ من خلالِ رفضِ مشاريعَ قوانين تُؤججُ الطائفية، بينما مَرجعاً مدنياً (الحكومة) يَعمل لمضاعفةِ الحالة الدينية. غير أنَّ هذا المرجعَ الديني، الذي أعطى مؤسسةَ قوى الأمن الداخلي مثلاً لاختلالِ التوازنِ الصيغوي، كان أصاب أيضاً وأكثر لو أعطى أمثلةً أخرى كـ مؤسسات الأمنِ العام والجيشِ والحرسِ الجمهوري وشرطةِ مجلسِ النواب والجمارك وبلديةِ بيروت وعددٍ من الوزاراتِ والإداراتِ الرسمية، ناهيكم عن الحالاتِ العسكريةِ الخارجةِ عن سلطةِ الدولةِ كحزبِ الله والمخيمات الفلسطينية.
الذين فاجأهم بيانُ مجلسِ المطارنة تضايقوا من توقيتِه أكثر من مضمونِه، وخُـيِّـل إليهم أنَّ البطريركيةَ تُنعِشُ المعارضةَ على حسابِ الأكثرية، في حين أنَّ قراءةً عميقةً للبيانِ تَكشِفُ حِرصَ البطريركيةِ على نجاحِ الحكومةِ القائمة فلا تَرتكبُ أخطاءً تُبرّرُ التشكيكَ بشرعيَّتِها وتزيدُ المطالبةَ بتغييرها. ومجلسُ المطارنةِ، وهو طالما دَعمَ خِيارات هذه الحكومة، ما كان يَدُقُّ ناقوسَ الخطرِ لو لم تكن لديه أسبابٌ موجِبةٌ، وفي ظـنّي أنَّ أبرزَ تلك الأسباب هي التالية:
- تَوفّرت للبطريركِ معلوماتٌ تُشير إلى عزمِ أطرافٍ في الموالاةِ والمعارضةِ على تهميشِ الدورِ المسيحيٍّ إضافياً في الفترةِ المقبلةِ من خلالِ انتخابِ رئيسٍ للجمهوريةِ لا يَتمتَّع بصفةٍ تمثيليّةٍ مسيحيّة، أو من خلال إجهاضِ الاستحقاقِ الرئاسيِّ برُمَّتِه.
- لاحظ البطريركُ أنَّ الحكومةَ الحاليّةَ، وإن كانت تَجهَدُ لتأمينِ انتخاباتِ الرئاسة، تُصِرُّ بالمقابل على بقائِها السلطةَ الحصريةَ الحاكمة في حالِ تَعذّرِ انتخابِ رئيسٍ جديد. وهذا يعني سيطرةَ الحكمِ السُنّي في البلاد (في غيابِ وزراء أمل وحزب الله)، وتغييبَ المرجِعِ الأولِ في الدولة ورمزِ وِحدة البلاد: رئيس الجمهورية الماروني.
- إن كان البطريركُ يعارضُ سياسةَ الرئيس إميل لحود وسَبقَ أن نَصحه بالاستقالة، فإنه بالمقابل لا يَهضُم هذا التجاهلَ الكُلّيِ لمقامِ الرئاسةِ في وقتٍ يَتسابقُ مقاطعو الرئيسِ لاستدرارِ رضا سوريا مجدداً. وعِوض تعويضِ تَجاهُلِ الرئاسةِ بإطلاعِ الكرسيِّ البطريركيِّ على التطوراتِ والقرارات، يَطوفُ رئيسُ الحكومةِ العالمَ العربيَّ وأوروبا ويَبلُغ الفاتيكان، عبر السفير البابوي، من دونِ أن يُطلِع المراجعَ على نتائجِ هذه الأسفارِ ومضمونِ المحادثات.
- شَعَر البطريركُ بأن المساعي العربيةَّ والدولية، بخاصةٍ بين السعوديةِ وإيران، تَعتبرُ تهدئةَ الصراعِ السني ـ الشيعي كافيةً لحلِّ الأزمةِ اللبنانية، فيما جوهرُ القضيةِ اللبنانية أبعد من هذا الصراع: إنه مصيرُ الوجودِ المسيحيِّ في لبنان ودورُه في حكمِ الدولةِ التي أنشأها الموارنةُ بدعمٍ فرنسي أَفَل.
- تناهت إلى بكركي أنباءٌ مفادُها أنَّ مداولاتٍ عربيةً وإقليميةً ودوليةً، يَطَّلع عليها تَيارُ المستقبلِ وحزبِ الله، تَجري لـ"تعيين" رئيسٍ جديدٍ للجمهورية بمنأى عن المراجعِ المسيحيةِ المعنيةِ مباشرةً وأساساً بالأمر. وهذا تطاولٌ أثارَ بكركي، لأن الفارقَ كبيرٌ بين أن تَرفضَ بكركي تسميةَ مرشحٍ، وأن يُفرَضُ مرشحٌ عليها وعلى المسيحيين.
- تأكد للبطريرك أن المرحلةَ الآتيةَ ستشهَدُ ازدحامَ مبادراتٍ ووِساطاتٍ، مِن فوقِ الطاولةِ ومن تحتِها، فكان لا بدَّ للبطريركِ من تذكيرِ الجميع بأنَّ بكركي كانت وتبقى المَمَرَّ الإلزاميَّ لأيِّ محاولةِ إيجادِ حلٍّ للوضعِ اللبناني، لاسيما وأن هذه المبادراتِ السلميةَ تَترافق مع أجواءٍ عسكريةٍ في الشرق الأوسطِ من شأنِها أن تَزيدَ الشرذمةَ القوميّةَ والدينية.
- لاحظ البطريركُ أن المبادرةَ الفرنسيةَ، وإن كان لا يُعارضها، تَجاهلت دورَ بكركي من حيث الحضور، ولو كمراقبٍ، ومن حيث مسارعةِ الإطرافِ المسيحيّين إلى اختيارِ ممثّليهم من دونِ الوقوفِ على خاطرِ الصَرحِ التاريخي. ناهيكَ عن عدمِ رضا بكركي عن الأسلوبِ الاعتباطيِّ الذي اعتُمِدَ في انتقاءِ شخصياتٍ مُسَمّاة "حركياً" من المجتمعِ المدني.
- أقلقَت أحداثُ نهرِ البارد البطريركَ لأنها كَشفت نُموَّ حالةٍ أصوليةٍ سُنيّةٍ سلفيّةٍ ذاتَ طابَعٍ إرهابي في البلاد، بموازاةِ الحالةِ الأصوليةِ الشيعية. وخَشِيَ سيدُ بكركي من أنَّ أيَّ تنازلٍ يُقَدِّمه المسيحيُّ للمُسلمِ الوطنيِّ والمعتَدلِ والصيغَويِّ والمنفتِحِ يَصُبُّ في نهايةِ المطاف في بحرِ حالةٍ سَلفيةٍ كان يُمكِن أن تَجتاحَ التيارَ الإسلاميَّ المعتدل لولا تصدي الجيشِ اللبنانيِّ الباسلِ والماهِر لها.
- يَئِسَ البطريركُ نسبياً من وعودٍ والتزاماتٍ أعطاه إيّاها مسؤولون حاليّون وسابقون بشأنِ معالجةِ قضايا التوطينِ والتجنيسِ والتَمَلّكِ والتوظيفِ والتعيينات، إلخ… فالشكاوى التي وَرَدت في بَيانِ المطارنَةِ علناً في 04 تموز الجاري، عُمرُها سنواتٍ وسنوات، ولا تَتحمَّل، بالتالي، حكومةُ فؤاد السنيورة وحدَها مسؤوليةَ هذه التراكمات.
في ضوء هذه المعطياتِ وغيرِها، آثرَ البطريركُ إثارةَ القليلِ من المواضيعِ قبلَ استفحالِ الضرر. ومن خلالِ بيانِ المطارنة، أعاد البطريركُ تَمَوْضُعَ بكركي تجاه الاستحقاقاتِ وفوق كلِّ الأطراف، وذَكّر، على طريقتِه المألوفة، من يَعنيهم الأمر، موالينَ ومعارضين، مسيحيين ومسلمين، عرباَ وأجانبَ، مدنيين وعسكريين، أنه هو المرجِعُ في هذه المرحلةِ التي تسودُ فيها مصالحُ الأفرادِ على مصالحِ المجتمعِ ولبنان. والمسافةُ النسبيةُ التي اتخذَها البطريركُ الماروني في الآونةِ الأخيرةِ من 14 أيار (من دون أن يتقرّبَ من فريق 8 آذار) تُضاعِفُ صُدقيَّتة وحياديَّته، تُـثبَّتُ مرجِعيَّتَه، وتُعززُ الثقةَ بقدرتِه على "الحسمِ السياسيِّ" بِتَجَرُّد.
وإذا كان بيانُ الأساقفةِ الموارنةِ لم يَهدف مطلقاً إلى تقديمِ هديةٍ مَجّانيةٍ لفريقِ 8 آذار المسيحي والشيعي من رصيدِ فريقِ 14 آذار المسيحيِّ والسُني، فهو في جوهرِه، يُوحي إلى اللبنانيين بفَشَلِ هاتين التجربتين. فلا الأكثريةُ تَصَرَّفت في الحكمِ وِفْقَ الآمالِ، ولا المعارضةُ مارست معارضتَها وِفقَ مصلحةِ البلاد، وآن للقوى الحيّةِ في المجتمعِ أن تَشكُرَ الفريفين، وأنْ تُطلقَ بشجاعةٍ مشروعاً يُجَدِّدُ الحياةَ السياسيةَ والوطنيةَ في لبنان.
يبقى أن الجوابَ الصادقَ على هواجسِ البطريرك، ولاسيما من قِبَل المُكَوِّنِ السُني في الأكثرية النيابية، هو المساهمةُ في اختيارِ رئيسِ جمهوريةٍ قويٍّ بأخلاقِه ومناعتِه ووطنيّته، يَعرفُ معنى المعاناةِ والتضحيات، يَرْشَحُ شَهامةً وشفافيّة، يَثِق به اللبنانيون، ويَطْمئنُّ إليه المسيحيون فيُشعرُهم بأنهم ما خَرجوا من الإحباطِ ليقعوا في التهميش.
وفي هذا الإطار، قليلةٌ هي الشخصياتُ المارونيةُ التي تَتمتَّعُ بهذه المواصفاتِ البسيطة، خصوصاً وأنَّ بيانَ المطارنَة أجرى تصفياتٍ نصفَ نهائيةٍ للمرشحين. لقد أقصى البيانُ كُثراً منهم، أو قضى، بالأحرى، على صُنفٍ من المرشحين يُشكِّل بلوغُ أحدِهم سُدَّةَ الرئاسةِ إهانةً للمسيحيين والشعبِ اللبنانيِّ في الوطنِ والمهجَرِ والآخِرة…
أصابت البطريركَ خيبةُ أملٍ من أَداءِ وزراء مسيحيين وشخصياتٍ مسيحيةٍ في 14 آذار. ولا يَستبعدُ أن يَتفرّقَ شملُ تيارِ 14 آذار عشيةَ استحقاقِ رئاسةِ الجمهورية سنةَ 2007، كما حلَّ بتَكتّلِ "قرنة شهوان" عشيةَ استحقاقِ الانتخاباتِ النيابيّة سنةَ 2005.