وليد أبي مرشد
أفضل ما كشفته سجالات المسؤولين اللبنانيين الأخيرة حول عمليات التنصت على المخابرات الهاتفية الاعتراف الرسمي بوجودها… وأسوأ ما أوحته أنها صارت جزءا لا يتجزأ من أمن لبنان الداخلي – وحتى الخارجي أيضا.
غني عن التذكير بأن لبنان ليس الدولة الوحيدة في العالم التي تحصي أنفاس العباد عبر نظام تنصت مركزي. والخلافات التي كشفتها سجالات الحوار الأخيرة توحي بأن مشكلته قد تعود إلى كون النظام اللبناني جديدا على مهنة التنصت بحيث فضح، بنفسه، تلبّكه في ممارسة هذه المهمة.
ولكن، رغم أن نظام التنصت في لبنان لا يزال رحوما مقارنة بأنظمة بعض جيرانه، ورغم أن الضرورات الأمنية تبرره إلى حد بعيد… يبقى الربط بين الأمن والتنصت غريبا في نظام ديمقراطي كغرابة الربط بين العدالة والتعذيب في دول الأنظمة الشمولية (ودولة جورج بوش البائدة في واشنطن).
من الطبيعي الافتراض بأن بلدا مثل لبنان، حدوده مستباحة، وأبوابه مشرعة لكل فصيل مسلح هلّ عليه من كل حدب وصوب، وساحته متخمة بالخلافات السياسية الحادة، بحاجة إلى توسل كل الأساليب المتاحة لحفظ أمنه من أخطار الداخل والخارج… شريطة ألا يستتبع ذلك التفريط في الحريات العامة وتجاوز حقوق المواطنين بوسائل قد تمهد لكبتها لاحقا… إذا سمحت بذلك الظروف السياسية. قد يبدو هذا التخوف مبالغا فيه. ولكن دواعي إثارته تمليها أي قراءة متأنية بين سطور السجالات التي كشفت، من جهة، عن معدات متطورة للتنصت كانت موجودة في قصر الرئاسة في بعبدا في عهد الرئيس السابق أميل لحود لا يعرف اليوم بعهدة من أصبحت، وأبرزت، من جهة ثانية، تسليم جميع المتحاورين بحق السلطة المركزية في التنصت لحفظ أمن لبنان… وكأن الوسائل الأخرى لضبط الأمن القومي لم تعد ضرورية في عصر الهاتف الأرضي والجوال.
إذا كان هذا هو مفهوم ضبط الأمن في لبنان فأضعف الإيمان تحديد الخط الفاصل بين التنصت «لضرورات أمنية» والتنصت الآخر الذي اصطلح المتحاورون على تسميته بالتنصت «غير الشرعي»، أي، بتعبير أوضح، تعدي بعض الجهات غير الشرعية والحزبية على خصوصيات المواطنين وحقهم الطبيعي في المحافظة على سرية شؤونهم العادية، سواء أكانت فردية أم مالية أم مصرفية أم تجارية.
لافت أن سجالات التنصت في بيروت لم تعط هذا الجانب من ممارساته حقه من الاهتمام بشكل يكفل طمأنة اللبنانيين على مستقبل حرياتهم الشخصية. وربما كان لتوقيت جلسات السجالات قبل أسابيع معدودة من بدء أعمال المحكمة الدولية دورا في تركيزها على جريمة العصر في لبنان، أي اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري.
ولكن، مع التسليم بأولوية الحؤول، إداريا وتقنيا، دون عرقلة عمليات التنصت الموجهة لملاحقة المتورطين في اغتيال الحريري، فإن التركيز على إشكالات التنصت العائد لهذه الجريمة سيّس السجالات منذ انطلاقها، بحيث طغى الجانب الحزبي فيها على الجانب المبدئي، أي مستقبل الحريات العامة.
في هذا السياق تبرز خطورة إشارة رئيس لجنة الإعلام والاتصالات في البرلمان اللبناني، النائب حسن فضل الله، إلى وجود «فوضى عارمة وسحب معلومات خاصة بالجملة» من أجهزة التنصت في وقت أصبحت فيه تقنيات اعتراض المخابرات الهاتفية متوفرة بسهولة لكل من يدفع ثمنها وباتت كل القوى السياسية في لبنان تملك القدرة على التنصت.
لذلك تبدو السجالات الدائرة حاليا حول التنصت وكأنها رأس جبل الجليد فقط، خصوصا إذا ما استمرت في الدوران في حلقتها السياسية المقفلة، في حين أنها أخطر من أن تحصر في قضية معينة أو أن تحشر في نزاع سياسي يغيّب عنوانها الرئيسي: الحريات العامة، واستطرادا ديمقراطية النظام اللبناني، على علاته.
وإذا ما استمر «الفلتان التنصتي» على حاله، فقد يأتي يوم لا يجد فيه رجل الأعمال والمصرفي والسياسي والتاجر وحتى المواطن العادي في لبنان من يحميه من «الانكشاف» التام أمام كل من كان قادرا، ومستعدا، لأن يدفع ثمن ابتزازه.