Khazen

إعــادةُ هَـنْـدَسة الـ 10452 كـلم
حين كان المسيحيون يَقبضون على غالِبية مواقعِ السلطةِ المركزيّـة، ظـنّوا أنَّ "بحبوحتَهم السياسية" حالةٌ أبديّـة بينما منطقُ التاريخ لا يَسمح لها بعمرٍ مديد في مجتمعٍ متعدِّدِ الطوائف، سريعِ النمو، متقدِّمٍ ثقافياً، ومحاطٍ ببيئةٍ شَرِهة. وظـنّوا أن الكيانَ الداخليّ لدولة لبنان الكبير منيعٌ أمام التحدّيات، بينما هو فكرةٌ رائدةٌ كمشروعٍ تاريخي، ومتعثرةٌ كمشروعٍ جغرافي؛ وهو أيضاً تجربةٌ وِحدويّـةٌ فريدة، ونظامٌ مركزيٌّ فاشل. منذ ولادتِه ظهرت عوارضُ ضعفِ الكِيان اللبناني. انتقلت إليه بالوراثةِ من مكوِّناتِه المختلِفةِ الوَلاءات، ومن محيطِه الذي لا يَعرف التعدّديّـةَ والحريّـة، ولا يَـفقَه التعايشَ من دون ذِمّية، والجِوارَ من دون اعتداء، والأمنَ من دون قمع.

     أطلق المسيحـيّون فكرةَ لبنان الكبير المركزي لتحرِّرَهم فأصبحوا أَسراها. ابتدعوا صيغةَ التعايش الطائفي فصارت ذبيحةَ شهداء. بَشّروا بوِحدة اللبنانيين فبات الحديثُ ولو عن الاتحادِ عاراً. إنْ طالب الآخرون بوِحدةٍ سورية أو عربية فحقٌ قومي، أما إنْ طالبَ المسيحيون بحقِّ تقريرِ المصير فخيانةٌ وطنية. انتهى زمنُ الحياءِ والشعورِ بالذنب وبعُـقدةِ أُمِّ الصبي. فماذا بقي من الصبيِّ لنكون أمَّـه أو أباه؟

     حين أُنشِئت دولةُ لبنان سنةَ 1920 بحدودِها التاريخـيّـة، رفضتها فئاتٌ لبنانـيّـة وعربيّـة. وحين استولينا على الاستقلال ساومنا على الهويّـة. وحين انطلقت الدولة اختلفنا على سياستِها الخارجية والدفاعية. وحين ساد الاستقرارُ وعمَّ الازدهارُ ضُربنا أمنياً وعسكريّـاً. نام الكيانُ على ضَـيْمِه لئلا يُقلِق الشعب، لكن أوجاعَه زادت وتخطَّت طاقةَ الصمت، فصاحَ في كلِّ اتجاه. سنةَ 1958 صرخ الوطن فأعطيناه جرعةً شهابيّـة ـ ناصريّـة وبدأ تعريبُ الهويّـة. سنةَ 1969 نَزفَت الدولةُ فأعطيناها اتفاقَ القاهرة وبدأ فُقدانُ السيادة. سنةَ 1975 هوَت الصيغةُ فأعطيناها المبادرةَ السوريّـة فقَضت عليها وبدأ الاحتلال. سنةَ 1982 فَتحنا القبرَ وأَخرجنا جسدَ لبنان ونَـفَـحْنا فيه روحاً فعاش سَحابةَ صيفٍ قبل أن ينازِع مجدَّداً. سنةَ 1988 كرّر لبنانُ صرختَه فوصفوا له اتفاقَ الطائف فأنقذوه ظاهريّـاً وقضَوا على جوهره. وها إنهم اليوم يُنعشون اتفاقَ الطائف بتسويةِ الدوحة، فحرّكت الدولةَ شكلـيّـاً من دون أن تأتيَ بحلٍّ للمشكلةِ الكِيانـيّـة والوجوديّـة.

     اللبنانـيّون اليوم يواجهون كلَّ الأزَمات التي أَرجأوا بَـتَّـها منذ سنةِ 1920 حتى هذه الساعة. يَهربون من الحلول الصَعبة، يَحتالون على القدَر ولا يَحترِمون مواعيدَ الاستحقاقاتِ التاريخـّيـة. إنَّ أيّ جدولةٍ جديدةٍ لحلِّ هذه الأزَمات المتراكِمة ستجعل الممكنَ اليومَ مستحيلاً غداً. قد نكون اليوم قادرين على إنقاذِ وِحدة لبنانـيّـةٍ ما، أما غداً فالتقسيمُ مُحتَمل. قد نكون اليومَ قادرين على اجتراحِ الحلِّ سلميّـاً، أما غداً فالحلُّ سيَخرجُ من فُـوَّهةِ البندقية.

     لاحت أمام المسيحيّين فرصٌ كثيرة للتغيير البنيوي (لا الكياني) فتردَّد القادةُ الموارنة في التقاطها ووقعوا ضحية إيجابيات ظرفية: سنةَ 1943 أكملوا طريقَ الوِحدة والاستقلال معجَبين بوطنيةِ زعيمٍ سُـنّيٍ كبيرٍ هو رياض الصلح. سنةَ 1958 صدّقوا صورةَ الخيمةِ على الحدودِ اللبنانية ـ السورية واعتبروها كافيةً لأن تحترمَ سوريا ومِصر استقلالَ لبنان. سنةَ 1976 طاروا فرحاً بخُطاب حافظ الأسد في 21 تموز وهلّلوا (باستثناء بشير الجميل) للمبادرةِ السوريّة. سنةَ 1982 ظـنّـوا حُكمَ أقوى حزبٍ مسيحيٍّ آنذاك (الكتائب اللبنانية) انتصاراً دائمًا. خَدعت هذه الإيجابياتُ العابرةُ المسيحيّين فتمسَّكوا بالدولةِ المركزيّـةِ وقَـدَّسوا الدستور وألَّـهوا صيغةَ التعايش ورفضوا تغييرَ شكلِ الدولةِ ونظامِها (وكانوا قادرين على ذلك)، فيما كان وجودُهم يتقلّص ودورُهم يَخبو وحلفاؤهم ينسحبون خِلسةً الواحدَ تِلو الآخر. فضّل المسيحيّون العيشَ على نشوةِ الانتصار وحنينِ الذكريات (لبنان لنا)، عِوَضَ البحثِ عن نظامٍ ثابتٍ لا انتصاراتٍ فيه ولا هزائمَ باستثناءِ ما يَـفرِزه النظامُ الديمقراطي. لا نريد ألــ 10452 كلم