سجعان قزي
@AzziSejean
ليس الغيابُ أن تغادرَ هذا العالم، بل أنْ يُغادرَك الناسُ، حيًّا كنتَ في عَجقةِ الحياةِ، أو ميتًا في سكينةِ ملكوتِ السماوات. الأُلفَةُ هي البقاءُ، والرِفقةُ هي الأزَلُ. ومراسِمُ الغيابِ، بالتالي، احتفالٌ مَجازِيٌّ لأخْذِ العلم. هذا المفهومُ يُعطي عبارةَ “بشير حيٌّ فينا” أبعادَها الفلسفيّةَ والوِجدانيّة. وبشير “الحيُّ فينا” صار بعدَ أربعينَ سنةً ذخيرةً وطنيّةً لكلِّ مُحبّيه؛ إليها يَتوجَّهون كلّما لاحَ خَطْبٌ أو جَفَّ نَبعُ القادةِ أو تاقوا إلى مجدٍ مَليح. لا يُصبحُ إنسانٌ ذخيرةَ شعبٍ، مهما كان مقامُه المدنيُّ أو الدينيُّ، ما لم يَتحَلَّ بالوفاءِ وفي حالٍ استثنائيّةٍ استوقَفَت التاريخَ فاصْطَفاها. والّذين يُتابعون التنقيبَ عن ظاهرةِ بشير الجميّل ليَحَسِموا موقفَهم منه، طبيعيٌّ أن يأخذوا وقتَهم، فتحديدُ موقِفٍ من العظماءِ جدليّةٌ تاريخيّةٌ لا تَستقرُّ إلّا بعدَ تفكيرٍ طويلٍ وعميق.
كان لهذه الذخيرةِ أن تَنموَ أكثرَ وتَنتشرَ في مختلَفِ البيئاتِ لو أنّ الّذين احتَضنوا ذكرى بشير الجميّل طَرحوا قضيّتَه من موقِعٍ وطنيٍّ يَتعدّى الحزبيّاتِ والطوائف، ولم يَحصِروا الرجلَ في المرحلةِ التي كان فيها فريقًا، وكانت مليئةً بذنوبِ الحربِ إلى جانبِ إنجازاتِ المقاومةِ العظيمة. فإذا شكّلَ بشير لأنصارِه المباشَرين مثالَ القائدِ المقاوِم، فشَكّلَ للعمومِ نَموذجَ الحاكمِ القويِّ والنزيهِ والإصلاحيِّ والشُجاع. كمُقاوِمٍ انتصَر على أخصامِه، وكحاكِمٍ مُنتخَبٍ انتصر على الفسادِ وغيّرَ ذِهنيّةَ المجتمع، ولو رَدْحًا من الزمن. كان التغييرُ جُزءًا تكوينيًّا في شخصيّةِ بشير الذاتيّة والوطنيّة. وكانت الكرامةُ مِعيارَ علاقتِه بالآخرين. آهٍ لو تَعلمون كَم سفراءَ دولٍ كبرى طردَهم بشير من مكتبِه لأنّهم طرحوا عليه تسوياتٍ على حسابِ لبنان.