يجتازُ لبنانُ أزمةً وجوديّةً بموازاةِ أزَماتِه المتعدِّدةِ تَستدعي أن نقاومَها ونَهزِمَها لئلّا يَتفكّكَ المجتمعُ اللبنانُّي ذاتيًّا من دون حاجةٍ إلى قرارٍ سياسيّ. صار لهذه الأزمةِ الوجوديّةِ ديناميّةٌ خاصّةٌ بها، ومسارٌ نفسانيٌّ مستقلٌ عن مسارِ الأزَمات الأخرى. اللبنانيّون ليسوا سعداءَ في حياتِهم. اِسْأَلُوا وجوهَهُم ووجومَهُم. اِسْأَلُوا عيونَهم ونظراتِهم. اِسْأَلُوا صَمتَهم وتهيبّوا غضبَهم. أفْقَدوهم مشيئةَ الحياةِ ليُحبِطوا إرادةَ الثورة، إذ لا ثورةَ من دونِ قابليّةِ الحياة. حتّى أنَّ الاستشهادَ هو دفاعٌ عن الحياة.
تلاشَت اللمْعةُ التي مَيّزت طلَّةَ اللبنانيّين وغمْزةَ لقاءاتِـهم. اختفَت علاماتُ الفرَحِ وبحيراتُ الابتسامة. إنْ فَرِحوا شَعَروا بحَياءٍ تجاه الآخَرين، وإن حَزِنوا أحَسّوا بالظلمِ لأنّهم أبناءَ الفرحِ يُدعَوْن. كالوَشْم، نُقِشَت صورةُ المرفأِ المتفَجِّرِ على جِباهِهم وتَسرَّبَت إلى الضمير؛ فانْطَووا على ذواتِهم واعتذَروا من البهجَة. ليس بالانكفاءِ يَتِمُّ تخطّي الصعوبات، بل بالمواجهةِ الشاملةِ طالما أنَّ الأزمةَ شاملة. لكن، أين قادةُ المواجهة؟ جميعُهم أصبحوا تسوويّين، حتى الّذين يَدّعون الثورةَ والتغييرَ يخافون قولَ الحقيقةِ. الـــ”نَعَمُ” لديهم باهتةٌ والـ”لا” باردة. تأقَلموا مع الطموحاتِ السياسيّةِ وتَغافلوا عن النضالِ من أجلِ الطموحاتِ الوطنيّة. ومنهم من فَضّلَ السفاراتِ على الساحات.
يَشعُر اللبنانيّون بامتِعاضٍ مُبهَمٍ. يَتحدّثون عنه ويَعجَزون عن تحديدِه. يأتي ويَروح. يَكبُر ويَصغُر. لا يَعرِفون مصدرَه: أطَلعَ منهم أم دَخلَ إليهم؟ أهي ضِيقةٌ مادّيةٌ أم ضيقةٌ نفسيّةٌ أم ضيقةٌ حضارية؟ أيَستَدْعون طبيبًا، أم يَجلِسون بقربِ حبيبٍ، أم يَلوذون بالعائلة، والعائلةُ مُشتتَّةٌ في مشارقِ الدنيا ومغاربِها؟ ظّنوا أنّهم بالحركةِ والرياضة، بالانشغالِ والعمل، بالترفيهِ والقراءة، بالسفرِ والهِجرةِ، يَطردون تلك الضيقةَ الغريبة، لكنّها سُرعانَ ما تُعود إليهم ولو بَلغوا الصين… خالُوها انتقلَت إليهم مع وباءِ كورونا، لكنّهم أخذوا اللَقاحَ مرّةً ومرّتين وثلاثًا، وبَقيَت الضيقةُ جاثمةً على العقلِ والقلبِ والصدرِ وعلى مفاصلِ العافية تتحدّى عزيمتَهم الأسطوريّةَ وصمودَهم التاريخيَّ وقدرَتَهم على التكيّفِ مع المصائب.
كان اللبنانيّون يعيشون بين الخفَرِ والفَرح، فإذا بهم اليوم بين الفَقْرِ والقرَفِ. نتيجةَ الأحداثِ تَعرّض وجودُهم لوعكةٍ نفسيّة. نَتج عنها اكتئابٌ أنيقٌ يناجي الشِعر، وأنينٌ شَجِيٌّ يحاكي التراتيل. انخفَضت نسبةُ السرورِ والبهجةِ في الدّمِ، وارتفعَت نسبةُ الحزنِ والشوقِ والمرارةِ والقلق. صاروا يُنصِتون إلى تغريداتِ العصافيرِ متقطِّعةً كصدى جَرسِ الحزنِ في كنيسة الوادي. وصاروا يَتوهَّمون، تحت هاجِسِ الهِجرة، أمواجَ البحرِ راحلةً، فيما هي آتيةٌ صوْبَنا تَرتمي على الشاطئ.
جُزءٌ من هذه الضيقةِ النفسيّةِ والوطنيّةِ يعود إلى هذه العهدِ الذي كان ثُلثُه الأوّلُ وعودًا، وثُلثُه الثاني قنوطًا، وبات ثُلثُه الثالثُ انهيارًا. والجُزءُ الآخَرُ يعود إلى أنَّ اللبنانيّين تهرّبوا من القيامِ بالمراجعةِ الوطنيّةِ والفكريّةِ والوِجدانيّةِ بعد كلِّ حربٍ ومعركةٍ واحتلالٍ منذ سنةِ 1958 إلى الآن. تَجمَّعت مُكوِّناتُ الأزَماتِ وبقاياها وتراكمَت، وأمْسَت أعْتى من مُكوِّناتِ الوطن، فانفجَرت اليومَ مع الانهيارِ الكبير. وعِوضَ أن نَلجُمَ الانفجارَ ونُسيطرَ عليه، راحت الأطرافُ السياسيّةُ تتقاسَمُ الأزَماتِ كما تَتقاسمُ الغنائم، على أملِ أنْ تَستثمِرَها في الحلِّ لاحِقًا.
ما كان يُمكن معالجتُه سابقًا بجُرعةِ دواءٍ لا يُعالَـجُ اليومَ إلا بالجِراحة. ومَدعاةُ العجبِ أنَّ اللبنانيّين، في العقودِ السالِفة، عالجوا بالجِراحةِ ما كان يُمكن معالجتُه بجُرعةِ دواء، واليومَ يريدون أن يعالجوا بجُرعةِ دواء ما لم يَعُد يُمكنُ معالجتُه إلا بالجراحة. إنَّ خطورةَ الحالةِ اللبنانيّةِ هي في كونِ التناقضاتِ الفكريّةِ والعقائديّةِ والسياسيّةِ والمجتمعيّةِ صارت عصيّةً على الأُلفَةِ في ما بينَها، وفَقدَت أواصرَ الجَدليّةِ الموحِّدَة. الخطورةُ أنَّ تاريخَ الأممِ يَكشِفُ أنَّ مثلَ هذه الحالاتِ لا تُعالَـجُ عَبرَ تسوياتٍ جديدةٍ، إنما من خلالِ حلولٍ جذريّةٍ. حبّذا لو كانت التسوياتُ بعدُ مُتاحةً، لكنَّ عمقَ الصراعِ طوى مرحلةَ التسويات. فلو كانت التسوياتُ ممكِنةً لحصَلَت في هاتين السنتين العابرتَين ولعالَجت مجموعَ الأزَماتِ المتفجِّرة.
أيُّ تسويةٍ تَحدُثُ اليومَ ستؤدّي إلى غالبٍ ومغلوبٍ لأنَ التسوياتِ تَحصُل على أساسِ موازينِ القِوى ـــ ولو كانت القوّةُ مستعارةً وغيرَ شرعيّة ــــ بينما الحلُّ الجذريُّ يَجري على أساسِ الثوابتِ الوطنيّةِ وخصوصيّاتِ المجتمع. الحلُّ يَخرُجُ بمشروعٍ وطنيٍّ مُحدَّثٍ على قياسِ اللبنانيّين الطامحين إلى التغيير. وهذا ممكنٌ لأنّ مفهومَ التغييرِ سيتَخطّى مركزيّةَ الدولة إلى رِحابٍ أخرى تقرِّرُها الإرادةُ اللبنانيّةُ برعايةِ الأممِ المتّحدة. وأصلًا، ليس “لبنانُ الكبير” حلًّا ولا تسويةً. هو مشروعٌ وطنيٌّ بخلفيّةٍ حضاريّة. لذا، لا نَترَدَّدْنَ في ولوجِ منطقِ الحلولِ الكبرى للبنان لئلّا نَستفيقَ غدًا فاقدينَ القدرةَ على السيطرةِ على مصيرنِا، فيَسقُط المشروعُ نهائيًّا.
في تغييبِ الحلول، يَعيشُ لبنانُ على الموقَّت. شَتاتُ المعارضةِ لا يُطالبُ باستقالةِ رئيسِ الجمهوريّةِ جِدّيًا خَشيةَ عدمِ حصولِ انتخابِ رئيسٍ آخَر. الرئيسُ المكلّفُ لم يَعتذر بعد، رغمَ مرورِ عشرةِ أشهرٍ على تكليفِه، خَشيةَ عدمِ قدرةِ أيِّ رئيسٍ مُكلَّفٍ آخَرَ على التشكيل أيضًا. الرئيسُ نبيه بري يَصمُد في رئاسةِ المجلسِ النيابيِّ محافظًا على المؤسّسةِ التشريعيّة خَشيةَ أن يَخلُفَه نائبٌ من حزبِ الله. هذا يعني أنَّ الخوفَ من البديلِ أو من الشغورِ يُعطِّلُ التغيير. وفي ظلِّ هذا الواقعِ يُصبح مُلحًّا وضعُ آلياتٍ دستوريّةٍ تنفيذيّةٍ تَحمِلُ الصِفةَ الإلزاميّة، فدستور الطائف لَحظَ جميعَ الحالات سوى تعليقِ الدستورِ وتعطيلِه كأمرِ واقع. تَرك للأخلاقِ هامشًا فصُدِم.
هكذا، أنّى التَفتْنا نَصطَدمُ بحالاتٍ تَزيدُ الضيقةَ النفسيّةَ وتُعمِّقُ الانقسامَ الوطنيَّ. أضحى شعبُ لبنانَ يَنظُر إلى حياة الشعوبِ المتحضِّرةِ ويَشتهي حياتَها وسيمفونيّاتها واخضرارَها وبيئتَها وتهذيبَها ونظافتَها وهدوءَها واستقرارَها وسِلمَها. وأصلا، هذه كانت حياةَ اللبنانيّين حتى الأمس القريب. كنا الحضارةَ في هذا الشرق وكنا السيمفونيّةَ. ليست الأُميّةُ في عدم القراءةِ والكتابةِ، بل في عدمِ قراءةِ الحضارةِ وكتابةِ السلام.
مأساة لبنان أنه كان بلدًا متقدِّمًا وحضاريًّا وتراجَع، فيما دولٌ أخرى هي أساسًا دولٌ متخلّفة. فكيف أصبح أنجحُ بلدٍ في الشرق، لبنان، أفْشلَ بلد؟ أعرفُ الّذين جَعلوه أنجحَ بلدٍ بين 1920 و1975، لكن من يعرِفُ أولئكَ الّذين جعلوه أفشلَ بلدٍ من سنةِ 1990 إلى اليوم؟ لا حاجةَ هنا إلى الاستعانةِ بصديق.
*****