الحياةُ السياسيّةُ في لبنان مُكَلَّسةٌ. سكونُ قبورٍ من دونِ خشوعِ السَرْوِ. كلُّ خبرٍ يَزيدُ القرفَ والإحباط، وكلُّ موقفٍ يَفرِزُ مشاكلَ جديدةً لا حلولًا. كلّما تَكلّم مسؤولٌ جاوز خِطابُه الخِيانة. وكلمّا صَرّحَ بعضُ السياسيّين عانَقَت الشتيمةُ البَذاءةَ وحَضَنَ الانتقامُ الكراهيَة. الحكمةُ هَجَرت العقولَ والمحبّةُ القلوبَ، فوقَفَ الضميرُ حائرًا حيالَ مصيرِ الضمائر. حين يكــثُـــرُ السياسيّون تَقِلُّ السياسةُ ويَندُرُ رجالُ الدولة. وأساسًا نَفتقِدُ الدولةَ والرجال. في لبنان يوجدُ سياسيّون لكن لا تُوجد سياسة. ما نَظنُّه سياسةً هو مُتحوِّرٌ أفْرزَهُ الصَّدأُ السياسيُّ. هذا المتحَوِّرُ يُصيبُ المجتمعاتِ الوطنيّةَ التي لا تَتجَدّدُ ولا تَضع كِمامةً ضِدَّ من أساءَ إليها ورَعى انهيارَها.
بموازاةِ هذا الصدأِ، نَشهَدُ نزوحَ أحزابٍ وتيّاراتٍ لبنانيّةٍ عن ثوابِتها وحتّى عن وفائِها لتاريخِها ورموزِها، ونُبصِرُ ارتحالَ الأجيالِ الجديدةِ عن الأحزاب. في الهَجْرِ مُتعَةٌ. لكنْ، لا الأحزابُ عَثرَت على شعبيّةٍ بديلة، ولا الأجيالُ اللبنانيّةُ وَجَدت وجهةً أخرى. في الانتظار، لجأ الشبابُ إلى مجموعاتٍ وجمعيّاتٍ لا تَبتغي الربحَ (صارت تَبغي، وتَبتغي الربح) للمشاركةِ في الشأنِ العامّ. إنّه لجوءٌ موَقَّتٌ لا يَرقى إلى مرتبةِ الالتزامِ الوطنيِّ والوِجدانيّ، ولا يُغني عن أطرٍ سياسيّةٍ ثابتة.
هذه النزعةُ تؤثّرُ على انتظامِ الحياةِ الديمقراطيّةِ وعلى صدقيّةِ الانتخاباتِ النيابيّةِ. رغم ذلك لم نَـجِد بعدُ نظامًا أفضلَ من الديمقراطيّةِ لضمان الحريّات، ولم تَجد الديمقراطيّةُ آليّةً أفضلَ من الانتخاباتِ لتمثيلِ الشعب. بَيْدَ أنَّ الانتخاباتِ النيابيّةَ التي كانت شرطًا ضروريًّا وكافيًا لصُحّةِ التمثيلِ الشعبيّ، صارت اليومَ شرطًا ضروريًّا لكنّه غيرُ كافٍ. كلتاهما، الديمقراطيّةُ والانتخاباتُ، فَقدَت رونقَها. الديمقراطيّةُ تبدو ضعيفةً أمام أعدائِها، والانتخاباتُ تتحوّلُ من استحقاقٍ دستوريٍّ إلى مِهرجانٍ شَعبويّ. الانتخاباتُ قوّةُ الديمقراطيّةِ وضُعفُها. في الدولِ الديكتاتوريّةِ يَعتبرُ المواطنون أنْ لا فائدةَ من تصويتِهم، فالانتخاباتُ عَرْضٌ برتوكوليّ. وفي الدولِ الديمقراطيّةِ فَقدَ المواطنون نخوةَ التصويتِ وتلاشَت ثقتُهم بالسياسيّين.
بين مقاطِعِي الانتخاباتِ والمقترِعين بورقةٍ بيضاء، تَتكوّن كُتلةُ “الصوتِ الغائب” الذي يفوقُ بدَلالتِه “الصوتَ الحاضر”. في لبنان، لهم أجْرٌ من يَقترِعون في ظلِّ هذه الدولةِ ومؤسّساتِها وقوانينِها الانتخابيّة: النُخبُ تَعتكِفُ عن الترشّح، المواطنون يقاطعون بنِسبٍ مرتفِعةٍ، الشعبويّةُ تُضلِّلُ الناخبين. لذلك يُفترضُ بالعمليّةِ الانتخابيّةِ أن تأخذَ في الاعتبارِ القيمةَ التمثيليّةَ للمقاطِعين لكي يَكتمِلَ التمثيلُ الشعبيّ. في إسبانيا يَحتسِبون الأصواتَ البيضاء في توزيعِ المقاعِد بين الأكثريّةِ والأقليّة، وفي سويسرا يَحتسِبونَها في احتسابِ الأكثريّةِ المطلَقة.
لقد نشأت بموازاةِ الانتخاباتِ آلياتٌ حديثةٌ لمعرفةِ رأيِ الناسِ ونَبضِهم ومزاجِهم وللاطِّلاعِ الدَوريِّ على تطوّرِ تفكيرِهم. بحكمِ انحسارِ العقائدِ التوتاليتاريّةِ، والتحوّلاتِ العالميّةِ والمجتمعيّةِ، وتراكمِ مطالبِ الشعوب، أصبح الناسُ يَتقلّبون في مواقفِهم، ويَتنقّلون بين اليمينِ والوسَطِ واليسار كما تَتنقّلُ الطيورُ من شجرةٍ إلى أخرى دونَ شعورٍ بخيانةِ الأشجار. انتهى زمنُ أن تولدَ في حزبٍ وتموتَ فيه. وولّى زمنُ الولاءِ الأعمى. وأصلًا لا أرى في بلادي ما ومَن يَستحِقُّ ولاءً أعمى. والمذْهِلُ أنَّ غالِبيّةَ قادةِ الأحزابِ في لبنان تُجيزُ لنفسِها التنقّلَ من موقفٍ إلى نقيضِه، ومن موقِعٍ إلى آخَر، ومن تحالفٍ إلى آخَر، ومن تسويةٍ إلى أخرى، وتَستفظعُ، بالمقابل، انتقالَ مناصريها إلى تجربةٍ جديدة. مَضَت أيّامُ “نَفِّذْ ثم اعْترِض”. نحن في أَوانِ “أعْترِضُ ولا أُنفِّذ”. هكذا تَتطوّرُ الحياةُ الوطنيّةُ في مجتمعٍ حرّ، وهكذا تَتعزّزُ كرامةُ الإنسان. دورُ الأحزابِ أن تَخلُقَ موادَّ نضاليّةً متطوّرةً لمناصريها كي تحتفظَ بهم. لكنَّ الوقائعَ في لبنان تَكشِفُ أنَّ غالِبيّةَ الأحزابِ تــتَّــكِلُ على “حواصِلها التاريخيّةِ” حتى لو كانت من دون تاريخ. والمؤسِفُ أنَّ الناخبين مثلُ السياسيّين والحكّام، يَستغِّلون الانتخاباتِ الديمقراطيَّةَ لمصالحِهم الخاصّةِ على حسابِ الخِيارِ الوطنيِّ الصحيح، كما أنَّ الناخبين العاديّين يَجهَلون الرهاناتِ الكبرى وخطورةَ الحدثِ، فيَنساقون في مواكبِ الديماغوجيّةِ والرأسماليّةِ والجهلِ ومراكزِ الضغطِ وتأثيرِ الإعلانِ والإعلام.
منذ ربعِ قرنٍ واستطلاعاتُ مراكزِ الدراساتِ في جامعاتِ هارفرد وكولومبيا وكمبردج (أميركا)، تُظهر ثلاثةَ مستجدّاتٍ سياسيّةٍ/اجتماعيّة: “أزمةُ الأحزابِ مع أتباعِها”، سوءُ محبّةٍ” بين الشعوبِ والانتخاباتِ، وارتفاعُ نِسبِ المقاطعةِ والتصويتِ الأبيض. ما خلا سويسرا والدانمارك والنروج وهولندا، 58% من الشعوب أبدوا عدمَ رضاهم عن الحوكمةِ الديمقراطيّةِ وصدقيّةِ الانتخابات (استطلاعُ جامعة كمبردج ــ ماساتشوستس 2021).
المقلقُ أنَّ الإحباطَ من الديمقراطيّةِ والانتخاباتِ يَتفشّى في الأجيالِ الجديدةِ ويُفسِدُ صُحّةَ التمثيل. في آخرِ استطلاعِ رأيٍ أجْرته مؤسّسةُ مونتاين Montaigne الباريسيّة، تَبيّن أنَّ 51% فقط من الفرنسيّين، لاسيّما الشباب، يؤمنون بالديمقراطيّةِ والانتخابات. أحْبطتهم الديمقراطيّةُ لأنّها لم تُقدِّم لهم العملَ والمسكَنَ والضماناتِ والأمنَ كفايةً. نفورُ هذه الأجيالِ من الديمقراطيّة لم يُترجَم بالإعراض عن المشاركة في الانتخابات فقط، بل في تَجنّبِ الالتزامِ بالأحزابِ السياسيّةِ أيضًا. النأيُ عن الأحزابِ في المجتمعاتِ الديمقراطيّةِ يُعوَّضُ بانضمامِ قوى المجتمعِ الحيّةِ إلى مؤسّساتِ التفكيرِ والتأثير (Think Tank) والأنديةِ الثقافيّةِ والتنظيماتِ النِقابيّةِ والكياناتِ المناطقيّة، فيَظلّون في كنفِ الدولةِ. لكن، أين سيَذهبُ اللبنانيّون المستاؤون من الديمقراطيّةِ والأحزابِ والانتخابات؟ الواقعُ اللبنانيُّ يُبيِّنُ أنَّ المواطنين الذين يَفقِدون ثقتَهم بمؤسّساتِ النظام الديمقراطي، واستطرادًا بالدولةِ المخطوفة، يَلوذون إلى بيئاتِهم الطائفيّةِ والمذهبيّةِ، أي إلى “بلدِ المنشَأ”. والجماعاتُ اللبنانيّةُ أتَتْ إلى الدولةِ أصلًا من بيئاتِها الطائفيّةِ. الانتقالُ من الدولةِ إلى هذه البيئاتِ يؤدّي إلى سيطرةِ المصالح الفئويّةِ والمناطقيّةِ والطوائفيّة على المصلحةِ الوطنيّة، وإلى انتشارِ ثقافةِ الكانتونات والفدراليّات، وقد أصبحت واقعًا.
يَجدرُ بجميعِ هذه المعطياتِ أن تدفعَ باللبنانيّين إلى استعادةِ الإيمانِ بالديمقراطيّةِ لأنّها مرادِفةُ الحريات، وإلى الإقبالِ الكثيفِ على الانتخاباتِ واختيارِ الأفضَل للبنان. سلاحُ البعضِ سلاحٌ فقط، بينما سلاحُنا يبدأ بالديمقراطيّة ولا ينتهي إلا بتحريرِ لبنان.