Khazen

سجعان قزي

@AzziSejean

 

فيما كانت الدولةُ اللبنانيّةُ غارقةً في السجالاتِ العقيمةِ وقابعةً في عُزلتِها، وُلدَ، على رَمْيةِ صاروخٍ من لبنان، “حِلفٌ أطلسيٌّ” جديدٌ في الشرقِ الأوسط ضَمَّ ـــ كأعضاءٍ مؤسِّسين ـــ المغربَ ومِصرَ والبحرين والإماراتِ العربيّةَ وإسرائيلَ وأميركا (28 آذار). وإذ اعْتذرَ عبدالله الثاني، ملكُ الأردن، عن حضورِ اللقاء الأوّل، زارَ الضِفّةَ الغربيّةَ في اليوم ذاتِه والتقى رئيسَ السلطةِ الفِلسطينيّةِ، ثم استقبل في عمان إسحق هرتزوغ رئيسَ دولةِ إسرائيل (30 آذار). وفيما “الحلفُ الأطلسيُّ” الجديدُ ركّزَ على الخطرِ النوويِّ الإيرانيّ، ركّزَ لقاءا رامَ الله وعَمّان على القضيّةِ الفِلسطينيّةِ وحلِّ الدولتين. لكن ما جِدّيةُ استهوالِ الخطرِ الإيرانيِّ فيما أميركا متلهِّفةٌ إلى توقيعِ الاتفاقِ النوويِّ في فيينا؟ وما مفعولُ التركيزِ على حلِّ الدولتين طالما أنَّ التطبيعَ العربيَّ مع إسرائيل حَصَل قبلَ ولادةِ الدولتين؟ صارت إسرائيلُ كَنّةَ العروبةِ، والعربُ قُرّةَ عينِ إسرائيل، وبقيَت فِلسطينُ أرملةَ الجميع.

باتت اللقاءاتُ بين الدولِ العربيّةِ ودولةِ إسرائيل تَتجاوزُ لقاءاتِ الدولِ العربيّةِ في ما بينها. والقِمّةُ العربيّةُ التي كان يجب أن تَنعقِدَ في أواخرَ آذار الجاري أُرجِئت ـــ رغمَ كلِّ التطوّرات الخطيرة ـــ إلى تشرين الثاني المقبلِ بسببِ الخِلافاتِ العربيّة. يتّفقُ العربُ على إدخالِ إسرائيل إلى البيتِ العربيِّ ويَختلفون على إعادةِ سوريا إلى الجامعةِ العربيّة. أمْسَت الصراعاتُ بين العربِ أكبرَ من الصراعِ مع إسرائيل. زَهَق العربُ من بعضِهم البعض، مَلّوا الخلافاتِ الفِلسطينيّةَ، زَحَلوا الجُغرافيا، ومَطّوا مفهومَ الأُخوّة… منذ نشوءِ دولةِ إسرائيل إلى اليوم (1948/2022) أمضى العربُ ربعَ قرنٍ في الحروب، وعاشوا ربعَ قرنٍ في حالةِ اللاحرب واللاسلم، ويَستمْتِعون الآنَ بربعِ قرنٍ في السلامِ والتطبيع. ما عاد الأمنُ العربيُّ مرتبطًا بمعاهدةِ الدفاعِ العربيِّ المشترَك، بل بالتحالفِ مع إسرائيل. أصبحت إيرانُ، لا فِلسطين، معيارَ السلامِ بين العرب وإسرائيل. تغيّر العدوُّ فتغيّرَ الحليف.

كان يفترضُ بإيران، لا بإسرائيل، أن تكوَن الحليفَ الإقليميَّ للعربِ، وبخاصّةٍ لدول الخليج، لو احترمَت حُسنَ الجوارِ واتّبعَت سياسةَ تعاونٍ وتضامنٍ مع جيرانِها العرب؛ لكنَّها انتَهجَت سياسةَ توسّعٍ واعتداءٍ وهيمنةٍ، فاسْتَعْدَتْهم. ليس مصادفةً أن تكونَ دولُ الخليجِ العربيّةُ، الأقربُ جغرافيًّا إلى إيران والأبعدُ من إسرائيل، هي مَن صالَحت إسرائيل وطبَّعت معها، في حين أنَّ دولًا عربيّةً مجاورةً إياها، مثلِ سوريا ولبنان والعراق، لا تزال تنأى بنفسِها عن السلامِ معها ولو كانت تَشعُرُ بالغَصّةِ والغُبنِ لعدمِ اللحاقِ بالتطبيع… هذا يعني أنَّ عربَ الخليج يَخشَوْن أطماعَ إيران لا أطماعَ إسرائيل. ويَتوجَّسون من أن تُضاعِفَ إيران سيطرتَـها بعد توقيعِ اتّفاقِ فيينا 2. لم يَنسَ العربُ بعدُ أنَّ التوسُعَّ الإيرانيَّ في منطقتَي الخليجِ والمشرقِ تجلّى وتَـمدَّد بعدَ توقيعِ الاتّفاقِ النوويِّ الأوّل سنة 2015. ولم يَغِبْ عن ذاكرتِـهم أنَّ كلَّ ما قامت به أميركا عسكريًّا وسياسيًّا في الثلاثينَ سنةً الماضية، تحت شعارِ احتواءِ إيران وإضعافِها، أدّى إلى نتيجةٍ عكسيّةٍ، إذ تَعزّزَ دورُ إيران في العراقِ وسوريا ولبنان واليمن وغزّة. وما رَجّح هذا الاتجاهَ الانكفاءُ الأميركيُّ من الـمِنطقة، وكأنَّ هدفَه دفعُ عمليّةِ السلامِ بين العربِ وإسرائيل من جِهة، وترسيخُ الصراعِ الخليجيِّ/الإيرانيِّ من جِهةٍ أخرى.

لذلك يَحِلُّ لأيِّ ذي مَنطقٍ أن يتساءلَ عن طبيعةِ العَلاقاتِ الباطنيّةِ بين إيران وأميركا، وبينها وبين إسرائيل. أهي علاقاتٌ استراتيجيّةٌ مُضْمَرةٌ أم عَلاقاتٌ عَدائيّةٌ مُعلَنة؟ في هذا السياقِ، ألم يكن لافتًا أنَّ الحوثيّين التابعين لإيران أعلنوا وقفَ الهجماتِ على السعوديّة ثلاثةَ أيّام (27/29 أذار) بموازاةِ انعقادِ اللقاءِ الوزاريِّ العربيِّ/الإسرائيليِّ/الأميركيِّ في النقَب؟ وألم يكن لافتًا أنَّ سببَ زيادةِ صادراتِ النفطِ الإيرانيّة منذ حرب أوكرانيا هو تغاضي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن تنفيذ العقوبات على إيران؟

ما كانت لتَحدُثَ هذه اللقاءاتُ الاستثنائيّةُ في شرمِ الشيخ والنَقَب وعَمّان والرياض وغيرِها لو لم يكن الوضعُ الإقليميُّ والعالميُّ مشرِفًا على تطوراتٍ جديدة. جميعُ تلك اللقاءات هي بمثابةِ تموضعٍ احترازيٍ لمرحلةِ ما بعدَ فيينا، وما بعدَ الحدِّ من الطاقةِ النوويّةِ الإيرانيّة، وما بعدَ الحربِ الروسيّةِ الأوكرانيّةِ التي رافقَتها تحالفاتٌ دوليّةٌ استراتيجيّة، وما بعدَ تشكيل الحكمِ العراقيِّ المستقِرّ، وما بعدَ الانتخاباتِ الأميركيّةِ النِصفيّة. قد تَبلغُ أصداءُ هذه الأحداثِ لبنان. هنا من يريد إضافةَ انهيارِ لبنان، من دون حربٍ، إلى الدمارِ الذي خَلّفته الحروبُ في العراق وسوريا واليمن وغزّة وحتى إلى دمارِ أوكرانيا.

لكي نرفعَ لبنانَ عن لائحةِ الضحايا في الشرقِ الأوسط، يَجدرُ باللبنانيّين، شعبًا ودولةً، أن يَستَبِقوا التطوراتِ ويَستفيدوا من مشروعِ الحِيادِ الذي طَرحه البطريرك بشارة الراعي. تاريخُ القرنِ العشرين يُظهرُ أنَّ الاتحادَ السوفياتيّ ـــ الذي يَخشى البعضُ أن يُعارض حيادَ لبنان ـــَ أيّدَ حِيادَ دولِ فنلندا وسويسرا والسويد ومالطا ليَحولَ دونَ انضمامِها إلى حلفِ شمالِ الأطلسي. فروسيا هي من حَبّذت سنةَ 1955 إعلانَ حيادِ النمسا، وها هي اليوم تَقترح حِيادَ أوكرانيا. هذه فرصةٌ للبنان للخروجِ من “رصيفِ الأمم” وبناءِ مستقبلِه في ظلٍّ دولةٍ قويّةٍ بعيدًا من الحروب والمحاور والأحلاف. ليس الحِيادُ مؤامرةً على أيِّ طرفٍ لبنانيٍّ، ولا هو ضِدَّ دولِ المنطقة. وأذكِّرُ حزبَ الله بأنَّ الإمامَ الخميني حين عاد إلى إيران في أوّل شباط 1979، رفض الأحلافَ ورفعَ شعارًا تأسيسيًّا للثورةِ الإسلاميّةِ هو: “لا شرقَ ولا غربَ بل جمهوريّةٌ إسلاميّة”، ووَصَف الولاياتِ المتّحدةَ الأميركيّةَ وروسيا بأنهما “شَفْرتان لـمِقصٍّ واحدٍ”. وقبل نحو ثلاثةِ أشهرٍ (08 كانون الثاني 2022) دعا الزعيمُ الشيعيُّ في العراق مقتدى الصدر الشعبَ العراقيَّ، وبخاصةٍ الشيعةُ، إلى اعتمادِ سياسةِ “لا غربَ ولا شرقَ بل العراقُ فقط».

هكذا يَتبين أنْ إذا ذَهب لبنانُ نحو الشرقِ، تلبيةً لتمنّي السيّد حسن نصرالله، سيقع على الحيادِ أيضًا، إلّا إذا اعتبرَ السيّدُ نصرالله أنَّ الإمامَ الخميني ومقتدى الصَدْر كانا على خطأ. إنَّ رفضَ مشروعِ الحيادِ يَضعُ اللبنانيّين أمام ثلاثةِ خيارات: الالتحاقُ عاجِلًا أو آجِلًا بركْبِ السلامِ العربيّ/الإسرائيليّ، أو قَبولُ تدخّلٍ غربيٍّ لإنقاذِ وجودِ لبنان، أو إكمالُ الطريقِ نحو انهيارِ الكِيانِ اللبنانيّ. إنَّ لنا في الحِيادِ ملاذا.

*****