ما جاء عن الثورة في المقاطعة الكسروانية
لما يئس القائمقام الأمير بشير احمد من الرجوع الى وظيفته استشار محازبيه واولهم الياس المنيّر من ذوق مصبح واستقر الرأي على تهييج اهالي كسروان ضد المشايخ بقصد رفض تسليط عموم المشايخ وحصر السلطة في واحد منهم لا غير (مطلب عادل وحق) فحسن الأمر للعموم ولاقى تأييداً كبيراً وانحاز اليه البعض من ريفون وعشقوت والقليعات ومزرعة كفردبيان والذوق وغيرهم من قرى كسروان الجنوبية كل ذلك عن حسن نية وجعلوا لكل قرية وكيلاً سموّه شيخ شباب ، وجعلوا صالح جرجس صفير من عجلتون رئيساً اعلى عليهم فكان شيوخ القرى يعطونه التعليمات عن كل ما يحدث عندهم وكان هو يوصلها الى المنيّر وهذا بدوره ينقلها الى القائمقام في بيروت.
وبالعكس فإن كل ما كان يبان موافقاً لنجاح الثورة كان القائمقام يبلغه الى مدير الأعمال في الذوق وكان هذا يبلغه الى الوكيل العام العجلتوني ومنه يذاع على العموم ، واعتقد المشايخ ان كل ما جرى كان ضد الأمير بشير احمد ، وسرّوا بتعيين صالح جرجس صفير وكيلاً عاماً وتوسّموا فيه خيراً لنجاح حملتهم على الأمير لأن صالح المذكور من اصدقائهم ومن غرضهم وكانوا يثقون به جداً . وعلى اثر ذلك جرى حادث الشيخ عباس الخازن في الذوق وعقبه حادث يوسف العجوي في جونيه في 9 كانون الأول 58 فهاج الأهالي ورفعوا راية العصيان طبقاً لتعليمات المنيّر، واجتمع المشايخ في غسطا فصد الهجوم على الذوق ، وتدخل المطرانان يوسف رزق ونقولا مراد للتوفيق بين الفريقين فلم ينجحا . اما اهالي الذوق الذين نزلوا الى جونيه وتطاولوا على الشيخ وردان ، فاجتمع عقلاؤهم مع الشيخ سمعان ابي حيدر من الذوق وحضروا لدى الأب الجليل الخوري يوسف راجي الخازن رئيس دير البشارة، المتولي حكم الذوق وجوارها وقتئذ ، واحضروا بعضاً من المذنبين، وترجوه ان يأمر بوضعهم في السجن ومعاقبتهم اشد عقوبة، فالأب المذكور بعد استشارة واحد من أقاربه كان يعوّل عليه فأشار اليه ان يعدل عن حبسهم فعدل، بينما يصير التبصر بقصاص اكبر معادل للذنب.
اما السبب في تشبث الفريقين بعدم إجراء صلح بينهما ، رغم مساعي الأساقفة كما تقدم، فيعود الى
اطمئان الأهالي الى معاضدة الحكومة لهم ومن جهة ثانية اغترار المشايخ بأن الحكومة ستنصفهم وتعيد اليهم كل حقوقهم مترسملين بالكلام المعسول الذي كانوا يسمعونه من خورشيد باشا وعماله.
اما صالح جرجس صفير الوكيل العام، فلما اطلع على غوائل هذه الثورة الوخيمة ودسائس منشئيها، الآيلة الى الخراب خاف واستقال من الوكالة، فأهل الثورة وكلوا عوضاً عنه طانيوس شاهين الريفوني.
عندئذ حدث هياج وضوضاء في ريفون ، وامتد هياجهم الى القرى المجاورة، وكان ذلك ليلة عيد الميلاد، فاجتمع اليهم في تلك الليلة الى ريفون نحو الف رجل واستولى الخوف على المشايخ فلزموا دورهم، ثم قدّم المشايخ عريضة الى خورشيد باشا يطلبون حمايتهم ( أي داوني بالتي كانت هي الداء) فارسل الأمير يوسف علي مراد الى كسروان، مفوضاً اليه اصلاح الأمور ومعه قائد الارناووط وبعض الخيالة.
وفي 19 كانون الثاني توجه الأمير الى غسطا فلما درى به الأهلون هاجوا وتجمعوا نحو 800 من قبلي كسروان مسلحين ودخلوا الى غسطا بالحدو والصياح وهجموا على دور المشايخ واطلقوا الرصاص عليهم ونزحوهم من بلدتهم مع حريمهم واولادهم.
بعد هذا قدم المشايخ عريضة الى خورشيد باشا يطلبون الحماية فارسل كاخيته وصفي افندي ومدبر اعماله مع مئتي عسكري منظمة فخيّموا في جونيه وتظاهر الأفندي أنه يريد القبض على طانيوس شاهين زعيم الثورة وتأديب العصاة، واقسم بذلك للشيخ كنعان بان الخازن، وبعد ذلك استدعى الخواجات عبدالله باخوس وحبيب الجاماتي احد الوكلاء وانطون بشارة القطان وغيرهم من الذوق وامر ان يتوجهوا الى ريفون ويبلغوا طانيوس شاهين الأمر بالحضور اليه ليعطي جواباً عن نفسه كذا! وفي الغد توجه المذكورون بنية سليمة معتقدين اجراء العدالة وعند وصولهم طلبوا مواجهة طانيوس المذكور لإبلاغه أمر وصفي افندي، فأجابهم وكيله أنه غائب منذ يومين…
بعد برهة قام حبيب الجاماتي وتوجه لناحية ثانية من البيت فرأى طانيوس شاهين متكئاً في مخدعه فدهش وارتد الى رفاقه متحيراً ومرتبك الأفكار خصوصاً أنه رأى عند طانيوس المذكور واحداً من الارناووط كان باقياً في الذوق ومعروفاً أنه رسول بعض الدسائس، واذ ذاك فهم سر هذه القضية وتأكد ان الحركة تتداولها ايدي اصحاب الاحتيال والخداع وداخله الوهم من سوء عاقبتها فاستقال من الوكالة وكان له مبلغ صرفه في مهام هذه القضية فتركه وتنحى.
وذكر المؤرخ بهذه المناسبة الخبر الآتي قال:"قد التقيت ذات يوم بالوكيل طانيوس شاهين ومن بعد التحية والسلام سألني هل لديك علم بحوادث جديدة تخبرني عنها، فأجبته اني سمعت عن قرب اعتماد دولة افندينا باشا بيروت انه يرسل عسكراً لتأديب اصحاب الثورة، فضحك مني ولم يحفل بكلامي ثم قال لي العلك تصدق هذا الكلام؟ الا تعلم أنه هو الدافع لنا لهذه الأعمال ؟ فسكت متعجباً من جوابه.
اما طانيوس شاهين ومحازبوه فمن بعد رجوع وصفي والعسكر الى بيروت تظاهروا بالعدوان وخطر في باله مع محازبيه قتل ما بقي من المشايخ في كسروان فتعمدوا النزول الى قرية عجلتون عازمين على قتل الشيخ بشارة فرنسيس وابن عمه دياب فتصدى لهم اهل عجلتون ولم يوافقوهم على هذا الرأي وقالوا لهم ما الفائدة من هذه الرداءة الفظيعة والقساوة المريعة.
أما كفانا نهب حاراتهم وطردهم من اوطانهم وبعد محاورة طويلة بينهم ، لم ينثنوا عن عزمهم الرديء بل انحدروا بعد منتصف الليل الى عجلتون ، فلما وصلوا الى دار الشيخ دياب وجدوا حرمته وابنتها في ساحة الدار فأطلقوا عليهما النار وقتلوهما، اما الشيخ فندي ابن دياب المذكور الذي كان داخل الدار فانهزم بواسطة البعض من اهالي عجلتون المضادين لهذا الرأي وانهزم بواسطتهم ايضاً ابن عمه الشيخ فرنسيس بشارة المذكور اعلاه، والقوا الأيدي على طانيوس شاهين رئيس الثورة وحجزوا عليه في احد البيوت، فتقهقروا راجعين، وعند الصباح اطلقوا طانيوس شاهين.
اما الشيخ فندي دياب وابن عمه فرنسيس بشارة فتوجها الى قاطع بيت شباب عند اولاد عمهما الذين ولوا الأدبار قبلهما.
اما حرمة الشيخ دياب وابنتها المقتولتان فقد منع رجال الثورة دفنهما عند الكنيسة، نكاية وإهانة لعائلتهما، فدفنوهما قرب دارهما وبعد برهة من الأيام نقلت جثتاهما على مدفن عائلتهما قرب كنيسة السيدة في عجلتون.
أما المشايخ فمن بعد ما طردوا من كسروان وتشتت شملهم ضبط طانيوس شاهين ورجال الثورة ارزاقهم، وشرعوا يستوردون ريعها الذي ما كان يستورد منه للمشايخ الا القليل، بواسطة بعض الأشخاص من حافظي الذمام خفية عن رجال الثورة. وقد اقواموا لهم ثلاثة وكلاء في بيروت لاجل المداعاة عن حقوقهم.، وكابدوا اتعاباً وفقدوا اموال ولم يستفيدوا من رجال الحكومة الا المماطلة والوعود الفارغة ، ناهيك عن المشقات والاهانات واحتياج البعض منهم الى ما هو ضروري لمعاشهم فهذه يقصر القلم عن ايضاحها وتفصيلها.
ومع هذا فقد استمروا في المحافظة على مزاياهم الحميدة ، وثبتوا على التشبت بعرى الايمان المستقيم وبمزيد التقوى والعبادة والتقدم من الأسرار بكل ما يؤول الى وفاء حقوق الديانة ، وكثيراً ما الح البعض من الأراطقة على البعض منهم لكي يحزبوهم الى معتقدهم فما امكنهم ان يجذبوا ولا واحداً منهم، لا بكثرة المال، ولا بأمل التوظف في المراتب السامية، ولا بنوع من الأنواع التي حببوا بها اليهم وبذلك حازوا اسماً صالحاً وفخراً زائداً واعتباراً فائقاً جميع الناس…
اما ما حدث في كسروان بأثناء هذه الثورة من الهرج والمرج والتعديات والتشكيات فيعسر تفصيله، لأنك كنت ترى وقتئذ الصياحات متواصلة، والمخاصمات متراكمة ، والتحزبات متوالية، والتعصبات لإيقاع الأضرار متتابعة، قصارى الأمر ان احوال كسروان كانت متعلقة في ذلك الحين بإرادة الجهلة الغافلين، اصحاب الغايات والغوايات. والصعوبة كانت للإفتقار الى حكومة تردعهم وتصدهم، ولأجل ذلك كم من العقلاء انحطّت كرامتهم، وانداست اقوالهم، وكم من المهنة الأتقياء قد حطّت شؤونهم وزالت مهابتهم واحترامهم، وكم من الذين انظلموا بفقد اموالهم وسلب امتعتهم، لأنه وقتئذ ما كان احد يتجرأ على ردعهم ولا الانكفاف عن اعمالهم المغائرة، ولا على عدم موافقتهم، وينجو من اضرارهم وجورهم.
وهاك شاهداً لذلك بما فعله اهل الثورة مع الوجيه سمعان ابي حيدر في ذوق مكايل إذ كان متهوماً في عدم موافقتهم في العدوان على المشايخ، لأنهم غب ان اوسعوه اهانات وشتائم، طردوه من الذوق فانهزم بعياله واطفاله الى بيروت ونهبوا بعض امتعته من داره وضبطوا اغلال ارزاقه. كل ذلك يؤكد ان الثورة لم يقم بها اهالي كسروان بل زمرة الغوغائيين مدفوعين من عمال الأتراك.
وهنا يطيب لنا ان ننوه بذكر منشورتين من قلم الأستاذين افرام صقر وانطوان الشمالي من درعون، الأولى بعنوان "الرد المبين على مزاعم اتباع طانيوس شاهين" ظهرت سنة 1967، وتقع في 162 صفحة. والثانية بعنوان " الإقطاعية والمشايخ الخوازنة" ظهرت سنة 1968، وتقع في 152 صفحة، فيهما البينات الراهنة لنقض ما جاء من تهجمات وقحة على الخازنيين. فمن يروم الإطلاع عليهما فليراجع " المطبعة التعاونية اللبنانية" درعون- حاريصا.