مخاطر تتخطى اصطفافَي 8 و 14 آذار
نشر هذا المقال في جريدة النهار في أول آب 2009
سجعان قزي
تجمُّع 14 آذار لم ينطلق للمطالبة بالانسحاب السوري والمحكمة الدولية وحسب، بل هو حركة وطنية واستقلالية تستكمل مشروع إعلان دولة لبنان الكبير وتنعش الميثاق الوطني. فالكيان اللبناني الذي تَمَّ الاعتراف دستورياً بنهائيته في اتفاق الطائف، ظل ينقصه اعتراف وجداني، فكانت ثورة الأرز تناضل لبناء دولة ديمقراطية مدنية حيادية لامركزية (وتبين لاحقاً وجود تباين بين أطراف 14 آذار حول مفهوم هذه الكلمات).
وتجمُّع 8 آذار لم يجتمع لرفض الانسحاب السوري والمحكمة الدولية وحسب، بل هو حركة سياسية وعسكرية تؤمن بوحدة لبنان واستقلاله، قاوم مكَـوّنها الأساسي (حزب الله) الاحتلالَ الإسرائيلي، لكنه يقوم اليوم مقامَ الدور السوري ويجسِّد امتداد الثورة الإيرانية شرقي المتوسط (وتبين أيضاً وجود تباين بين أطراف 8 آذار حول حدود هذا الدور).
لذلك إن الصراع بين التجمعين اللذين يحملان مشروعين متناقضين للبنان الوطن والهوية والنظام والمجتمع والإنسان، لن ينتهي إلا بغالب ومغلوب. لا أعني هنا أن فريقاً لبنانياً سيغلب فريقاً لبنانياً آخر، بل أقصد أن أحد هذين المشروعين سيغلب الآخر، إذ لا يمكن التسوية بين الاستقلالية والتبعية، بين الدولة والدويلة، بين الأمن والمربعات الأمنية، بين الحرب والسلام، بين الحداثة والجمود، بين الحياد والانحياز، بين السلاح الشرعي والسلاح غير الشرعي، وبين ولاية الفقيه والدولة المدنية.
إذا كان مشروع 14 آذار المعلن هو الحقيقي والنهائي، فمشروع 8 آذار المعلن هو مرحلي وتمويهي يُخفي مشروع حزب الله الأساسي بإقامة جمهورية إسلامية "تحترم" الخصوصية اللبنانية. وهذا لا ينفي وجود مشروع سُـنّي سلَفي ـ يرفضه تيار المستقبل ويكبحه ـ يحلم بإقامة خلافة إسلامية لا تحترم الخصوصية اللبنانية، لأنه فكر تكفيري خلافاً لفكر حزب الله.
لهذه الأسباب، Ùشل قادة التجمعين ÙÙŠ الخروج من الاصطÙا٠الØاصل بين 8 Ùˆ 14 آذار مع أنهم التقوا ÙÙŠ هيئة Øوار وطني. وإذ لا Ø£Øد يملك كل الØقيقة، أؤمن بأن Øزب الله، بالأصالة والنيابة معاً، يتØمّـل مسؤولية الÙشل لأنه لا ÙŠØاور الآخرين بل ÙŠÙرض رأيه عليهم. Ùهذا الØزب واثق من قدرته على تØقيق مشروعه والسيطرة على الØكم ÙÙŠ لبنان. وثقته ناجمة عن أسباب عدة أبرزها: إيمان مناصريه بقضيتهم، قدراته العسكرية. صموده الرائع ÙÙŠ Øرب 2006. الدعم المالي والعسكري الإيراني اللامتناهي عبر الØدود اللبنانية Ù€ السورية. عدم عداء إسرائيل التاريخي للØركات الشيعية ÙÙŠ العالم العربي ولامبالاتها بالوضع الداخلي اللبناني. واستخÙا٠Øزب الله بالسياسة الأميركية ÙÙŠ المنطقة بعد تعثرها Ø§Ù„ÙˆØ§Ø¶Ø ÙÙŠ لبنان والعراق وأÙغانستان وإيران (Øتى الآن).
ÙˆÙÙŠ المقابل، لم ÙŠÙ†Ø¬Ø ØªØ¬Ù€Ù…Ù‘Ø¹ 14 آذار ÙÙŠ تخطي معارضة تجمّع 8 آذار Øين كان الأخير ضعيÙاً بين سنتي 2005 Ùˆ 2006ØŒ ولا تمكَّن من أن ÙŠØكم معه بعد أن استقوى إثر Øرب 2006. وإØراج تجمّع 14 آذار يعود إلى أسباب عدة أهمها: طبيعة مشروعه الرامي إلى بناء دولة لا إلى المواجهة والقتال. سيطرة الاعتبارات الطائÙية على قرارات مصيرية كمشروع إسقاط الرئيس إميل Ù„Øود. تقوقع نسبي بعد كل عملية اغتيال Ø£Øد رموزه. تردد المكوّÙÙ† السنّي ÙÙŠ اتخاذ مواق٠معينة خشية Ùتنة سنَـيّـة شيعـيّـة. إعطاء الأولوية للمØكمة الدولية على مشروع بناء الدولة. إصغاء Ùائق Ù„Ù„Ù†ØµØ§Ø¦Ø Ø§Ù„Ø³Ø¹ÙˆØ¯ÙŠØ© والأميركية الداعية إلى التهدئة وعدم التصدي المناسب للتØديات الأمنية والعسكرية. Ø§Ø¬ØªÙŠØ§Ø Øزب الله ÙˆØÙ„Ùائه غربي العاصمة ÙÙŠ 7 أيار 2008ØŒ قبول النتائج السياسية لميزان القوى الجديد وتعميمها على باقي قوى 14 آذار من خلال تسوية الدوØØ©. Øيادية سلبية للجيش اللبناني راÙقها تخاذل قوى الأمن ÙÙŠ السنوات الثلاث الماضية. إخÙاق مكونات 14 آذار ÙÙŠ أن تنسج بينها ودّية وشÙاÙØ© وصادقة ومتوازنة وتنظيمية.
منذ سنة 2005ØŒ كم مرة غضب شعب ثورة الأرز على قادته، وكم مرة أخذ عليهم بطأهم وتراجعهم، تساهلهم وتسامØهم، اختلاÙهم ومزايداتهم، صبرهم وتنازلاتهم، وكم مرة أخذ عليهم تصرÙاتهم الانهزامية Ùيما هم منتصرون، وانتصارهم الأخير كان ÙÙŠ انتخابات 7 Øزيران 2009 النيابية. إن تجمع 14 آذار ÙŠØ·Ø±Ø Ø£Ø³Ø¦Ù„Ø© مصيرية ويردّ عليها بإجابات ظرÙية، ويثير قضايا صØÙŠØØ© ويعالجها بشكل خاطئ.
اليوم يراهن البعض على Øصول Øركة مناقلات داخلية ÙÙŠ كل من 8 Ùˆ 14 آذار، لكن الاصطÙا٠السياسي، بل الانقسام الوطني القائم بينهما سيستمر وسيعنÙ. وأستبعد سقوط هذين التجمعين ÙÙŠ المدى القريب والمتوسط ما لم تØدث تطورات عسكرية Øاسمة من جهة، وما دامت القضايا الوطنية والمصيرية الجوهرية مجمدة من جهة أخرى. لكن ما أن تأتي ساعة Øسم المواق٠Øتى تظهر نقاط الاختلا٠داخل كل Ùريق. Ùلا قادة 8 آذار ÙÙŠ ما بينهم ولا قادة 14 آذار ÙÙŠ ما بينهم، متÙقون على قضايا مثل تعديل الدستور وصلاØيات رئيس الجمهورية ومصير Ø³Ù„Ø§Ø Øزب الله والعلاقات مع سوريا ومÙاوضات السلام مع إسرائيل ومعالجة الوجود الÙلسطيني ÙÙŠ لبنان. ومع أن الانطباع هو أن بنية 14 آذار أكثر هشاشة من بنية 8 آذار، Ùالرباط الوطني بين قوى 14 آذار الأساسية أقوى من صراع Ø§Ù„Ù…ØµØ§Ù„Ø ÙÙŠ ما بينهم نظراً للظرو٠التي نشأت Ùيها ثورة الأرز. وإذا كانت الأخطار الأمنية الداخلية المØيطة بتجمّع 14 آذار تعزز ÙˆØدته الاتØادية رغم زØول وليد جنبلاط، Ùإن الأخطار العسكرية الخارجية المØدقة بـ"Øزب الله" من شأنها أن ØªØ·ÙŠØ Ø¨ØªØ¬Ù…Ù‘Ø¹ 8 آذار ÙÙŠ أي Ù„Øظة.
بعيد انتخاب الرئيس ميشال سليمان أمل لبنانيون ÙÙŠ انتقال أطرا٠من الÙريقين إلى كن٠رئيس الجمهورية ليشكلوا "القوة الرئاسية"ØŒ وقبل الانتخابات النيابية تَجدَّدت الآمال ثم تراجعت لدى تردد الرئيس سليمان ÙÙŠ اتخاذ مبادرات سياسية عملية، وإخÙاقه بالإتيان بكتلة نيابية. منذ خطاب القسم وصولاً إلى خطاب عيد الجيش أول آب الماضي، اكتÙÙ‰ رئيس الجمهورية بتشخيص الأمراض ÙˆØ·Ø±Ø Ø¹Ù†Ø§ÙˆÙŠÙ† Øلول صØÙŠØØ© وبدق نواقيس الخطر. تميز رئيسنا بشجاعة وضع الإصبع على Ø§Ù„Ø¬Ø±Ø Ù„ÙƒÙ†Ù‡ لم يستعمل المÙـبضَع، والسبب: صلاØياته المسلوبة وشخصيته المتأنية. Ùالرئيس يخشى أن ÙŠØµØ¨Ø Ø·Ø±Ùاً كسائر السياسيين، وأن يتورط ÙÙŠ صراع مع 8 Ùˆ 14 آذار، وبالتالي مع الدول التي Ù€ بأشكال شتى Ù€ تدعم هذين التجمعين اللذين لا يجسّÙدان الانقسام بين اللبنانيين Ùقط بل بين القوى العربية والإقليمية والدولية.
بعد تسوية الدوØØ© وتعديل السلوك الأميركي ÙÙŠ الشرق الأوسط إثر انتخاب أوباما، وجد الرئيس ميشال سليمان Ù†Ùسه على خط تماس سوري Ù€ إيراني Ù€ سعودي Ù€ أميركي، ÙÙŠ وقت لا تطاوعه Ùعلياً المؤسسات الأمنية والعسكرية ÙÙŠ البلاد. وسيبقى الرئيس Ù…Øدود الØركة ما لم تجد تسوية ÙÙŠ ما بينها هذه القوى الأربع، المتمددة "على هواها" ÙÙŠ لبنان، أو ما لم تØدث تطورات عسكرية تÙرز موازين قوى جديدة. Øالياً، لا يملك الرئيس سوى سلاØين: الصبر على الضيم وهذا ما يتØمّله بوجع، أو التهديد بالاستقالة على غرار Ùؤاد شهاب وشارل Øلو والياس سركيس. لكن أيهرع السياسيون إليه، هذه المرة، يتوسلون بقاءه كما Ùعلوا مع الرؤساء الثلاثة السابقين، أم يستغلون استقالته لاقتسام البلد رسمياً؟
مجمل هذه المعطيات جـمّدت Øركة "المناقلات" السياسية وعزّزت الاصطÙا٠بين 8 Ùˆ 14 آذار رغم انعطاÙØ© عقيمة قام بها النائب وليد جنبلاط أخذته إلى موقع "اللامكان"ØŒ Ùهو لن ينضم تنظيمياً إلى 8 آذار ولو عاد إلى شعاراتها، ولم يعد سياسياً ÙÙŠ 14 آذار ولو Øَنَّ إلى ساØاتها. سيبقى اليوم ÙÙŠ الشو٠وغداً "بÙيشوÙ". لكن رصاصات وليد جنبلاط أصابت 14 آذار بإعاقة بالغة، إذ Ø£Ùقدتها المكوّÙÙ† الدرزي القوي علاوة على مكوّن شيعي قوي تÙتقر إليه منذ تأسيسها.
إن التعددية الطائÙية والمذهبية ÙÙŠ 8 آذار أكثر توازناً منها ÙÙŠ 14 آذار، والتواصل بين أطرا٠8 آذار متيسّÙر أكثر منه بين أطرا٠14 آذار الذي لم يعد يضم سوى السÙـنَّـة والمسيØيين، وبشكل أساسي: الرئيس أمين الجميل، الرئيس المكل٠سعد الØريري والدكتور سمير جعجع. Ùإلى أي مدى يستطيع موارنة 14 آذار الاكتÙاء بالتØال٠مع السÙـنَّـة Ùقط، وإلى أي مدى يستطيع السÙـنَّـة، وتØديداً سعد الØريري، الاكتÙاء بالتØال٠مع صقور المسيØيين Ùقط. والدليل أن تجمع 14 آذار يتØاشى عقد اجتماع على مستوى القادة مما أعطى لأمانته العامة هامش تØرك أثار إشكالات عديدة.
غير أن تجمّع 14 آذار Ù…Øكوم بمواصلة المشوار الوطني. Ùعدا مبادئ عامة وشعارات جمعته سنة 2005ØŒ تبقى ضعيÙØ© قدرة أطراÙÙ‡ على Ø§Ù„Ù†Ø²ÙˆØ Ø¹Ù†Ù‡: تيار المستقبل متمسك بتØالÙاتـه الØالية ÙÙŠ ظل الصراع السني الشيعي، المعطو٠على صراع سعودي إيراني متÙاقم. ÙˆØزبا الكتائب اللبنانية والقوات ضنينان بالبقاء ÙÙŠ 14 آذار، خصوصاً ÙÙŠ ظل غياب Ø£ÙÙ‚ قيام جبهة مسيØية تضمهما إلى التيار الوطني الØر والمردة ÙÙŠ ظل بكركي. ÙˆØتى الØزب التقدمي الاشتراكي يسعده ضمناً الØÙاظ على موطئ قدم ÙÙŠ قريطم، على الأقل.
لا بد، إذاً من تعويم سريع لتجمع 14 آذار ليتمكن من مواصلة مسيرته الوطنية، ولا بد Ù„Øزبي الكتائب اللبنانية والقوات اللبنانية وسائر الشخصيات المسيØية من أن تضاع٠دعمها تيار المستقبل الذي لا يزال ÙŠÙجسّÙد روØاً إسلامية وطنية Øلمنا بØلولها منذ تأسيس دولة لبنان. وأي سقوط لتيار المستقبل، ولسعد الØريري بالذات، لا يصيب ميثاق التعايش بين المسلمين والمسيØيين Ùقط، بل سيÙـخضÙع الشارع السني لسيطرة التيارات السÙـنّـيَـة المتطرÙØ© والعنيÙØ© وغير الوطنية، وللتنظيمات الÙلسطينية أيضاً. وبالمقابل Øري بسعد الØريري أن يوطّÙد تØالÙÙ‡ مع القوى المسيØية الØليÙØ© ويÙتخر بها أمام قواعده الشعبية ويØسب Øسابها المØÙ‚ ÙÙŠ الاستØقاقات لأن إضعاÙها، ÙÙŠ Øالة الاصطÙا٠الØالية، لن يقوّي التيار الوطني الØر كتيار مسيØÙŠØŒ بل كتيار بات جسر عبور الشيعية الإيرانية إلى المجتمع المسيØÙŠ Ùالمناطق السنية، Øينئذ لا يعود 7 أيار 2007 يوماً عَـبَر، بل Øالة دائمة تØاصر لبنان.
لكن الخطر الآتي من تطور الأØداث العربية والإقليمية والدولية يتخطى الØركة السياسية اللبنانية بين 8 Ùˆ 14 آذار. والذين ÙŠÙكرون بإعادة انتشارهم السياسي لا ÙŠÙعلون ذلك من منطلق الخروج من تجمع والدخول إلى آخر، بل من منطلق Øماية وجودهم البشري والسياسي عشية متغيرات قادمة. إن الصورة القائمة تنذر باضطرابات مختلÙØ©. يكÙÙŠ أن نتبين المشاهد التالية:
1 ـ نظام اقتصادي ـ مالي يتهاوى (ما هي قدرة أميركا وأوروبا على مواصلة دورهما السياسي والعسكري).
2 Ù€ نظام أميركي Ø£Øادي سياسي Ù€ عسكري يتعثّر (ما هي قدرة أميركا على مواصلة ضبط القوى الإقليمية ومنع تجدد Øرب باردة).
3 Ù€ نظام شرق أوسطي قديم Ù€ جديد يسقط (ما هي قدرة دول الشرق الأوسط على الØÙاظ على توازنها ÙÙŠ وقت ضع٠القديم ولم يبرز الجديد).
هذه الصور، علاوة على أزمات شعوب المنطقة، موجودة ÙÙŠ لبنان لأن نظام الشرق الأوسط القديم مرّ من هنا، والجديد يعبَث به. ولا تستطيع الدول الضعيÙØ© تÙادي الØروب إلا بوØدتها وقوتها ÙˆØيادها. Ùهل Ù†ØÙ† موØَدون وأقوياء ÙˆØياديون؟
*************************************************